مفتاح
2024 . الجمعة 19 ، نيسان
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 

وردني عشرات من الردود الجميلة حول مقالتي الأخيرة (العنف ضد المرأة ... وجدار الصمت)، كما وردتني العديد من التساؤلات حول مفهوم "العنف الرمزي"، الأمر الذي دفعني للكتابة مرة أخرى حول ما تتعرض له المرأة بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص من أشكال مختلفة للعنف وخاصة العنف الرمزي.

فإعادة التفكير في ظاهرة العنف ليست من باب الترف الفكري أو الاستعراض الأدبي، بل أن سبب العودة لموضوع العنف في المجتمعات هو أن التفكير في ظاهرة العنف هو تفكير في صميم وعمق الحياة الإنسانية، أو بالأحرى في تجلٍ من تجليات السلوك الإنساني، حيث أن العنف ظاهرة إنسانية بامتياز، إن لم نقل ظاهرة ثقافية اجتماعية.

والعنف الرمزي هو العنف الذي يسكن "لاوعي المجتمع"، ويبدو إذا أن صفة الاختفاء والتواري تسم هذا العنف إذ يحضر على هيئات وأشكال تجعله مرغوبا فيه من قبل ضحاياه أنفسهم.

وبحسب المفكرة التونسية رجاء بن سلامة: "هو عنف هادئ، لا مرئي، لا محسوس، حتى بالنسبة إلى ضحاياه، ويتمثل في أن تشترك الضحية وجلادها في التصورات نفسها عن العالم والمقولات التصنيفية ذاتها، وأن يعتبرا معا بنى الهيمنة من المسلّمات والثوابت. فالعنف الرمزي هو الذي يفرض المسلّمات التي إذا انتبهنا إليها وفكرنا فيها ملياً بدت لنا غير مسلّم بها!" وهي مسلّمات تجعلنا نعتبر الظواهر التاريخية الثقافية طبيعة سرمدية أو نظاما سماوياً عابراً للأزمنة. واشد أنواع العنف الرمزي هو ذاك الذي يبدو بديهيا، ويفرض نفسه على الضحية والجلاد والقاضي معاً، ويقول عن نفسه انه ليس عنفا، بل عادات وتقاليد ومنظومة قيم متوارثة!

ويمكن القول أيضاً أن العنف الرمزي هو مختلف أشكال الإكراه المباشر أو غير المباشر التي يفرضها فرد على آخر أو جماعة على أخرى مثل طريقة الكلام والجلوس والأكل واللباس، وهو موجود ليس بين الأغنياء والفقراء فحسب كما يذهب إلى ذلك "كارل ماركس" في نقاشه لقضايا البورجوازية والبروليتاريا، بل نجده بين الأغنياء فيما بينهم والفقراء فيما بينهم ولمزيد من التوضيح سنأخذ بعض الأمثلة التي تمارس من خلالها العنف الرمزي بتوظيفها لغرض فرض منظومة معينة من القيم والدلالات على الأفراد على أنها النموذج الأرقى والأسمى، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن سكان فلسطين مثلا بما فيهم الفلاحون يعتبرون لهجة المدينة مهذبة وأنيقة واللهجات الريفية غليظة وغير حضارية، على الرغم من أن اللهجة المدنية ليست لها بحد ذاتها قيمة أعلى عن اللهجة الريفية. وإنما هي لغة الغالبية من المثقفين والساسة ومقدمي البرامج التلفزيونية والإذاعية وطلبة الجامعات، وأصبح مجمل الناس يسلّمون بأنها أفضل وبأن لغة الريف رديئة. فهذه العملية مظهر من مظاهر استلابات العنف الرمزي في المجتمع .

الأمر ذاته نسجله في الإعلام من خلال استخدامه للمرأة "كأنثى" في الترويج لسلعة معينة أو خدمة ما، حتى لو كانت تلك السلعة إطارات للسيارات، او شاحن موبايل! والشواهد هنا لا تعد ولا تحصى وتبلغ درجة موغلة في الاستغلال البشع للمرأة لكونها أنثى!، ومن صور العنف الرمزي أيضاً الأمنيات والدعوات الدينية والاجتماعية البسيطة الطيبة المتداولة في المجتمع والموجهة فقط للذكور-حتى لو كان المخاطِب والمخاطَب أنثى- وهي شاهدٌ جليّ على العنف الرمزي الممارس من قبل الضحية والجلاد معاً! حيث أن أقبح أصناف العنف الرمزي ذلك الذي أسسه المجتمع الذكوري في التعامل مع المرأة، وانساقت المرأة ذاتها في "التواطؤ اللاواعي" مع الظاهرة، وانعكس هذا التواطؤ في السلوكيات الاجتماعية، ليصبح السلوك حاملاً الكثير من الرموز التي تحطّ من قيمة المرأة.

إن التواطؤ الاجتماعي، بحسب عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" يعمل من خلال: "تواطؤ الاستعدادات، تُتّبعُ بعمق لأجل تأبيدها أو تحويلها- بتأبيد أو تحوّل البنى- التي كانت تلك الاستعدادات نتاجاً لها" .

فكل عنف ضد المرأة يتضمن بالضرورة تمييزا، وعقد الصلة بين العنف والتمييز يكشف ما في التمييز من عنف يتم باسم مبادئ رمزية. ويزداد هذا العنف الرمزي حدةً، عندما نجد "رجع الصدى" لهذا العنف محلّ إجماع صامت أو صريح بين الضّحايا والجلاّدين في الوقت نفسه. فيصبح المجتمع عبارة عن مصنع منتج للعنف الهادئ الذي يفعل فعله باسم مبادئ تصف نفسها بأنّها أخلاقيّة وتحاط بهالة من التّقديس. هذه المبادئ تقدّم على أنّها بديهيّة وطبيعيّة لا تحتاج إلى النّقاش وهي في الحقيقة اعتباطيّة وقائمة على خواء علمي وأخلاقي، مستغلة ثقافة المجتمع السّائدة .

وختاماً، لا بد لنا أن نعمل معاً من اجل مناهضة ظاهرة العنف عموما، والعنف الرمزي بشكل خاص نظرا لخطورته وتغلغله في ثقافتنا ومنظومتنا القيمية، وذلك من خلال الوعي والثقافة وكسر جدار الصمت لكل مظاهر العنف والاستغلال للمرأة، وصولا إلى حقوق كاملة غير منقوصة للمرأة الفلسطينية، وأقول للقارئة الكريمة التي أبرقت لي بأن هذه المهمة "حُلم"!، لا .. هي ليست بالحلم، فنحن قبلنا التحدي لمكافحة كل مظاهر العنف وانتهاك حقوق الإنسان، وليست المرأة فحسب، لأن المرأة هي الإنسان، ولن تكون فلسطين بحرائرها وأحرارها اقل من دول ومجتمعات عديدة تحترم حقوق الإنسان، وتصون الكرامة الإنسانية، وتفتحت زهور ربيعها القيميّ، وكسرت فيها المرأة جدار الصمت وإلى الأبد.

 
 
اقرأ المزيد...
 
 
لنفس الكاتب
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required