مفتاح
2024 . الخميس 28 ، آذار
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 

في نظر العديد من الاسرائيليين النتيجة الاساس لحرب لبنان الثانية كان فقدان الثقة الجماعية بالنفس. فمن تربى على قصص حرب الايام الستة، عملية عنتيبة وقصف المفاعل في العراق، وجد صعوبة في أن يفهم كيف فشل الجيش الاسرائيلي في المواجهة مع منظمة حرب عصابات لبنانية صغيرة. وبدا الأرق منذئذ في كل حديث عن الوضع، بل واحتدم بعد أن احتلت حماس غزة في ثلاثة ايام. كيف سننجو امام الاسلام المتطرف، ماذا سنفعل مع ايران، هل اكتشفوا كيف يقوضوننا. هل الصهيونية ستبقى والاطفال سيواصلون العيش هنا، أم سيتعين عليهم التنقل في منفى جديد.

الرجل الذي وعد تحويل المزاج العكر، واعادة البسمة الى عيون الاسرائيليين هو وزير الدفاع ايهود براك. كانت هذه رسالته في الحملة لرئاسة حزب العمل، والتي وعد فيها الامة بالامن وترميم الردع. بعد مائة يوم في المنصب، يشعر براك انه أنجز المهمة. شعوره جد ايجابي. وهو يرى كيف تستعاد الثقة بالنفس، وكيف يشعر الناس بالردع الاسرائيلي مرة اخرى.

رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، عاموس يدلين، بشر في بداية هذا الاسبوع بان الردع الاسرائيليي قد رمم، "وان هذا يؤثر على كل الساحات الاقليمية، بما في ذلك ايران وسوريا". ويتفق براك مع هذا التقدير. خسارة فقط أن التحولات التي اجتازها براك في السنوات الاخيرة، السقوط من الحكم والعودة الى الامن، لم تعلمه كيف يعبر عن نفسه ببساطة. تحليلاته اللامعة لا تزال ملتوية بعض الشيء، ناهيك عن القول بانها مضنية. الردع، في نظره هو الاحساس بان اسرائيل تعرف كيف تنظر بعين مفتوحة الى الاوضاع، حتى الخطيرة منها، واختيار كيفية العمل. ان لها القدرة على اتخاذ القرارات والخبرة المهنية لتنفيذها. واذا كان هذا يعمل على نحو سليم، فان المواطنين يتمتعون بهدوء داخلي والوضع الحقيقي للدولة يتأثر عميقا.

إرث الصمت

من يجد صعوبة في متابعة هذا الشرح الطويل، يمكنه أن يكتفي بالعناوين الرئيسة في الصحف في الاسابيع الاخيرة. فبعد فترة طويلة من الدفاع عن النفس، الامتصاص والاهانة، تبدو اسرائيل مرة اخرى كمبادرة ومظفرة. هنا تقرير عن قصف منشأة نووية في سوريا (حسب مصادر أجنبية)، هناك نبأ عن اختطاف كبار مسؤولين من حماس من غزة، وهنا اعلان عن تقليص توريد الكهرباء الى القطاع وعن عملية تقترب ضد وابل القسام. وتلتقط الصور لبراك في المناورات، كما أن براك يكافح في سبيل الميزانية، براك يكافح المتملصين من الخدمة، براك يمنع التنازلات للفلسطينيين. قلة التسريبات من داخل جهاز الامن، والاحساس بان كبار رجالاته يتمتعون بالعمل مع واحد منهم بعد الولاية القصيرة والمحرجة لعمير بيرتس، يلعب في صالح براك. وهو يتخذ، على الاقل حاليا، صورة رب البيت في مقر وزارة الدفاع.

براك ارتبط دوما بالصور الاكثر تاريخية منه بابناء زمنه، وهو يستطيب اقتباس نابليون. فقد تعلم منه بالتأكيد أهمية الحظ في الحياة المهنية للجنرالات وكبار المفكرين العسكريين. لا ريب أن توقيت "العملية في سوريا" لعب في صالحه. وحسب وسائل الاعلام الاجنبية، فان المعلومات التي تشتبه بتعاون نووي بين سوريا وكوريا الشمالية وصلت الى اسرائيل قبل نحو نصف سنة. بيرتس كان في حينه وزيرا للدفاع. لا غرو أنه كان السياسي الاول الذي تحدث في وسائل الاعلام عن أهمية "الطلعة". ويمكن فقط للمرء أن يتصوره يجلس في بيته في سديروت ويتخيل باحباط عما كان سيحصل لو كانت الانتخابات التمهيدية تأجلت بضعة اشهر.

ما هي مساهمة براك في اتخاذ القرارات في القيادة؟ مع تسلمه مهام منصبه قرر بضع قواعد للعمل. التقويمات والتعليمات يجب أن تسلم خطيا، وليس بالغمزات والتفاهمات الشفوية. مرؤوسوه سيتلقون منه الاسناد حتى لو اخطأوا، إذ من الاخطاء يتم التعلم؛ وفقط الاخطاء في السلوك تحت النار لن تغتفر لانها تبث رسالة عن اداء الجيش برمته. لقاءات ضباط كبار مع رئيس الوزراء ايهود اولمرت، يجب ان تمر من خلال وزير الدفاع. براك يتحفظ من إرث ارئيل شارون، الذي درج على القفز عن الهيكلية المراتبية، والاتصال من مكتبه للقادة في الميدان واضفاء روح القائد عليهم. وهذه صفقة براك: اولمرت يتمتع بشخصية أمنية مجربة الى جانبه، وبالمقابل عليه أن يمتنع عن النبش في الجيش الاسرائيلي.

ولكن التأثير الاساس لبراك كان في اضفاء سياسة الصمت في الشؤون العملياتية. من ناحيته، قبل أن تتقرر حملة خلف الحدود يجب الاخذ بالحسبان رد فعل الجانب الاخر ومحاولة التأثير عليه. العملية لا تنتهي عندما تعود القوات الى الديار، بل عندما يرد العدو. في العام 1988 اغتالت اسرائيل المسؤول الكبير في م.ت.ف ابو جهاد في بيته في تونس. براك، الذي كان في حينه نائبا لرئيس الاركان، اقترح عدم تحمل المسؤولية. فالجميع سيعرفون على أي حال من صفاه وخسارة دفع الفلسطينيين نحو موجة من الاغتيالات والاغتيالات المضادة. لم يكن من الصعب عليه اقناع رئيس الوزراء في حينه اسحق شمير بانه من الافضل الصمت. شمير رجل الحركة السرية كان ينفر على أي حال من الثرثرة الامنية.

في العام 2007 الواقع مختلف والجوع لنيل الحظوة على النجاحات أشد مما كان في أي وقت مضى، ولا سيما بعد الفشل في لبنان. يمكن التقدير بان براك أقنع اولمرت بان الصمت افضل من الثناء الذاتي. ردود الفعل الدولية على "العملية في سوريا" جعلت نهجه في نظرة الى الوراء محقا. ولكن ما هذا مقابل الزلة الداخلية العلنية لبنيامين نتنياهو، الخصم التاريخي لبراك، الذي كشف السر الكبير في مقابلة تلفزيونية يوم الاربعاء. عن ضربة قاضية سياسية كهذه لا يمكن الا الحلم: ايهود وايهود صامتان ومسؤولان، وبيبي، الذي لم يكن على الاطلاق شريكا في القرار المصيري، يتورط في الاستوديو بفمه الكبير.

في مسألة الحظوة، يوجد لبراك مفهوم مشوق. صحيح أن رئيس الوزراء هو المقرر الاخير، ولكن لقادة جهاز الامن مسؤولية فاضلة كمن أوصوا بسبل العمل، ولا سيما اذا كانوا خبراء ومجربين. والدليل هو أن الثمن الشخصي عن حرب لبنان الثانية دفعه رئيس الاركان ووزير الدفاع، وليس اولمرت الذي بقي في منصبه.

برأي براك، الخطأ الاساس في ادارة الحرب السابقة كان في أن الرد على اختطاف الجنديين في الشمال امتشق من جارور المخططات العملياتية التي وضعت لسيناريوهات اخرى، ولم يتم التوقف للحظة للتفكير في ما ينبغي عمله وكيف بافضل صورة. وبدل تحديد الاهداف، تنازعوا على من ستعود الحظوة. وبرأي براك، فأمام اسرائيل كان هناك بديلان في صيف 2006: إما القرار بتصفية تهديد حزب الله، وعندها تجنيد الاحتياط، تدريبهم على مدى شهر والخروج في عملية برية واسعة؛ او الاكتفاء بضربة قصيرة وصائبة، مسنودة بخطة خروج سياسية.

النقيض من كامب ديفيد

هذا التردد سيقف قريبا امام بوابة براك واولمرت، عندما يقرران اذا كانا سيجتاحان غزة. في جلسة المجلس الوزاري هذا الاسبوع كرر براك تقديره في أنه كل يوم يقربنا من عملية واسعة هناك. وهو يعرف ان اسرائيل من شأنها أن تعلق في وضع عديم الخيار، ربما بعد عملية مضادة كبيرة. ولكن بشكل خاص لديه ترددات. اجتياح غزة يمكنه ان يحقق تقليص مؤقت لنار القسام، تقليل تدفق السلاح الى القطاع، وتدمير البنية التحتية لحكم حماس. وفي الجانب السلبي للميزان تقف التجربة التي اكتسبتها اسرائيل وغيرها من الدول في الجيل الاخير في التصدي لمثل هذه التهديدات. براك يعرف بان كل انجاز عملياتي على المدى القصير، يحث سياقات اشكالية في الجانب الاخر، وعليه ينبغي التفكير جيدا في رد فعل الطرف الاخر قبل اطلاق الشرارة. جهاز الامن على أي حال يتوجب عليه تحمل النتائج.

في الساحة الفلسطينية تبنى براك، كما كان متوقعا، خطا نزاعا الى الامن. الضفة يرى فيها شركا. على اسرائيل أن تعزز محمود عباس وتضعف حماس ولكن دون أن تساوم على أمنها. انسحاب هناك لن يتاح الا بعد استكمال جدار الفصل وتتزود اسرائيل بمنظومة "متعددة الشرائح" للدفاع عن النفس ضد القاذفات الصاروخية والتي يرى في تطويرها براك مشروعا وطنيا مركزيا. صحيح أنه لا يمكن الضمان بالا يجتاز أي مخرب ولا يسقط أي غرض، ولكن الواقع الامني سيكون مغايرا. تماما مثلما خلق سلاح الجو واقعا يسقط فيه كل طائرة اجنبية والاسرائيليون لا يخافون القصف.

نهج براك، الذي يبخل في البادرات الطيبة للفلسطينيين، يقف ظاهرا في نقيض من المحادثات التي يجريها اولمرت مع عباس في الطريق الى مؤتمر السلام في واشنطن. اولمرت وعد بحرية حركة في الضفة، وبراك ماطل وماطل "الدراسة الميدانية"، وفي ختامها وافق على فتح بضعة سبل نائية في المداخل لقرى فلسطينية، بل وحتى "النظر" في مرابطة افراد من الشرطة الفلسطينية لتوجيه الحركة في مدينة أو اثنتين، في ساعات النهار فقط. لم تكن هنا أصالة او جسارة: فمثل اسلافه، براك أيضا عرض بادرة طيبة فارغة من المضمون للفلسطينيين وذلك فقط كي يجتاز بهدوء زيارة كونداليزا رايس.

براك يقترح على الحكومة أن تجري بحثا جذريا في مصالح اسرائيل ومواقف الطرف الفلسطيني، وان تبحث عن صيغة سياسية تكون على ما يكفي من بث البشائر كي لا تهين الفلسطينيين، ولكن عمومية بما يكفي كي لا يشعر الاسرائيليون بانهم إمعات قدموا تنازلات جوهرية في مواضيع اللباب دون أن يتلقوا شيئا بالمقابل. براك الذي اقام سياسته كرئيس وزراء على الزمن المتبقي لـ بيل كلينتون في البيت الابيض، لا بد أنه يحصل بالعد التنازلي ولاية جورج بوش. ولهذا فهو يتحفظ من انسحاب احادي الجانب عن مواقع تمسكت بها اسرائيل على مدى أربعين سنة: محظور الحديث عن خطوط 1967 في بداية المفاوضات، ومحظور باي حال ذكر قرار 194 (الذي يفسره الفلسطينيون كاعتراف بحق العودة للفلسطينيين) كاساس للتسوية.

لديه انتقاد شديد على خصمه الكبير، النائب الاول لرئيس الوزراء حاييم رامون. الخطط السياسية التي ينشرها رامون تبدو لبراك بعيدة الاثر، تعبيرا عن انعدام السيطرة على الذات والسلوك غير المنضبط. رامون، الذي تبهج مثل هذه الصراعات يومه، لا ينفعل. مواقفه، كما يقول مقربوه، اكثر اعتدالا بكثير مما اقترحه براك على ياسر عرفات في كامب ديفيد.

يعرف رامون ان هذه هي النقطة الاكثر حساسية لدى براك. فبعد سبع سنوات من القمة الفاشلة في كامب ديفيد، والانتفاضة التي اندلعت في اعقابها، يواصل قشط القشرة، ويجد صعوبة في ترك الجرح لحاله. فهو لم يتعلم من شارون الذي في طريق عودته الى القمة كف عن الحديث عن حرب لبنان الاولى. براك لا يزال مقتنعا بانه تصرف على نحو سليم حين سعى الى استنفاد الخطوة السياسية مع عرفات في محاولة لمنع اندلاع بركاني ينشأ عن تواصل الاحتلال.

ما الذي تغير منذئذ؟ المسيرة السياسية التي يديرها اليوم اولمرت تبدو لبراك قلبا رأسا على عقب لجهوده في كامب ديفيد. في حينه تحدثت اسرائيل مع عرفات، الذي كان مشكوكا في رغبته تحقيق التسوية ولكن لم يكن مشكوكا بقدرته على تنفيذها. اما اليوم فيقف امام اسرائيل ابو مازن، رجل ايجابي بشكل نسبي، وسلام فياض، رجل ايجابي بشكل مطلق، وخلفهما خطر سقوطهما من السلطة وحلول حماس محلهما. لا شك في نيتهما الطيبة، ولكن ايضا اذا ما تحقق التفاهم، فمشكوك أن يتمكنا من الوقوف خلفها وتنفيذها.

اولمرت لا يتأثر على نحو خاص من شكوك وتحفظات وزير الدفاع. فاذا كان لا بد فانها تعزز موقفه في المفاوضات مع عباس وحيال ضغوط رايس. في نهاية المطاف سيؤيد براك وحزب العمل كل تسوية يجلبها اولمرت. ليس لهم بديل وبراك ايضا يعرف ذلك، على أي حال، ولكنه يتمتع حاليا في هذه الاثناء من اعادة استقراره وثبات سمعته كسيد الأمن.

 
 
اقرأ المزيد...
 
 
لنفس الكاتب
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required