شكل المبادرة السلمية التي أقرت في مؤتمر القمة العربية الأخير (آذار 2002) ) تحولا تاريخيا في الموقف العربي إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، من حيث أنها تعرض قبولا بالدولة العبرية وتطبيعا للعلاقات معها، وذلك بعد عشرات السنيين من الرفض المبدئي للاعتراف بإقامة الدولة اليهودية على ما كان يعرف بفلسطين. ولكن كما هي العادة في لغة السياسة، فإن ترجمة إطار سياسي مبدئي إلى إجراءات وسياسات عملية محددة قد يكون أصعب بكثير من التوصل إلى الاتفاق على المبادئ الأساسية، خاصة وان هكذا اتفاق قد يسمح في الغالب بتفاوت كبير في كيفية فهمه من قبل الأطراف الموقعة عليه. وقد تعطي الجوانب الاقتصادية للمبادرة العربية مثالاً حياً على ذلك.
إن الكلمة المركزية في المبادرة العربية، من حيث تحديد طبيعة والعلاقات المستقبلية مع إسرائيل، هو وصف هذه العلاقات ب "طبيعية". فقد يكون لهذه الكلمة معاني ومدلولات سياسية محددة نسبياً، ولكنها لا تقول شيئاً بالنسبة لمجالات وحجم التعاون الاقتصادي بين الأطراف ذات العلاقة. وهنالك أمثلة كثيرة على بلدان يوجد بينها علاقات سياسية "طبيعية"، وبالتأكيد لا يوجد بينها نزاعات مسلحة، ولكنها فشلت مع ذلك في إقامة علاقات اقتصادية ذات وزن كبير فيما بينها. ولا شك أن حجم التجارة البينية المتواضع بين كثير من الدول العربية هو مثال صارخ على التأثيرات العميقة للاعتبارات السياسية على العلاقات الاقتصادية.
هنالك أسئلة أساسية عديدة يجب طرحها عندما تبدأ الدول العربية التحدث مع إسرائيل في العلاقات الاقتصادية الثنائية، لعل من أبرزها ما يلي:
• ما هو نوع الإطار التنظيمي الذي سيحكم العلاقات التجارية بين الطرفين؟ من الواضح بأن الأطر التجارية (Trade regimes) قد تتفاوت كثيراً في طبيعتها، من تجارة خاضعة لنظام الحصص وتحديد أنواع السلع والكميات المسموح باستيرادها، إلى تجارة تحكمها اتفاقيات المناطق التجارية الحرة (FTA)، إلا علاقات تجارية ضمن إطار الاتحادات الجمركية.
• ما هو الإطار التنظيمي الذي يحكم تدفق العمال بين البلدان ذات العلاقة؟ إن لأية اتفاقية بهذا الخصوص أهمية بالغة الحساسية بين البلدان ذات الحدود المشتركة مع إسرائيل.
• ما هو موقف القيادة السياسية في كل بلد عربي بالنسبة "للمشاريع المشتركة" مع إسرائيل؟ والمقصود هنا ليس فقط المشاريع ذات الطابع الربحي، بل أنها تشتمل أيضا تلك المشاريع المتعلقة بالبنية التحتية، والتي تقع في الغالب تحت إشراف مؤسسات القطاع العام.
من الواضح بأن مواقف كل من الدول العربية بالنسبة للأسئلة السالفة الذكر قد تتفاوت كثيراً، وذلك بالرغم من أنها جميعاً قد وافقت على المبدأ الأساسي المتعلق بإقامة علاقات "طبيعية" مع إسرائيل. ولا شك أن أحد العوامل الرئيسية بالنسبة لهذا الموضوع هو طبيعة الموقف السياسي التقليدي للقيادة السياسية في كل بلد عربي من الصراع العربي الإسرائيلي، والذي يحدد كثيراً من المدى الذي سيذهب له كل بلد عربي في تطبيع علاقاته مع إسرائيل، وذلك أبعد من مجرد إنهاء أشكال النزاعات المرئية معها. وبالإضافة للموقف الرسمي، فأنه يجب التأكيد أيضا على الأهمية القصوى لموقف الجماهير العربية بالنسبة لموضوع التطبيع مع إسرائيل، إذ أن ذلك قد يكون أحد العوامل الرئيسية في تحديد أشكال وحجم هذا التطبيع.
وفيما إذا تركنا الاعتبارات السياسية و توجهات الرأي العام جانباً، فان اتجاهات وزخم عملية التطبيع في المجالات الاقتصادية ستتأثر إلى حد بعيد في نهاية المطاف بالمعايير الاقتصادية المحضة. ولا شك أن تقييم العلاقات المستقبلية بين كل من الدول العربية وإسرائيل على أسس اقتصادية محضة سيكون محكوماً باعتبارات تفصيلية قد تكون في الغالب ذات طابع محلي. وهذا يعني بأن كل بلد عربي سيكون له حساباته وأولوياته والتي قد لا تتطابق بالضرورة مع بلدان أخرى، كما يتضح من بعض الأمثلة العملية.
فبالنسبة للأردن، فأنه قد يرى مصلحة كبيرة في إقامة مشاريع البنية التحتية المشتركة، وقد يجد الأردن من مصلحته التوسع في المشاريع الصناعية المشتركة، التي بدأ العمل بها منذ بضع سنوات. ونظراً للموقع الجغرافي والحدود المشتركة فقد يجد الطرفان مصلحة كبيرة في التوسع في مجالات التجارة والسياحة، بل وربما حركة العمال عبر الحدود. كذلك فأن مصر قد تقرر التوسع كثيراً في المشاريع المشتركة في المجالات الصناعية والزراعية والسياحية.
أما بالنسبة لسوريا ولبنان، فانهما قد يلجئان لاتخاذ مواقف اكثر تحفظاً بالنسبة لآفاق التعاون الاقتصادي مع إسرائيل، حتى بعد استعادة كامل أراضيهما المحتلة. وعلى العكس من ذلك، فان دول الخليج ستكون على الأغلب اكثر استعداداً من الناحية المبدئية للتعاون الاقتصادي مع إسرائيل بعد "السلام"، ولكن مع احتمال وجود تفاوت كبير بين بلد وآخر.
إن هنالك أسبابا قوية ستدفع الشركات الإسرائيلية لأن تكون معنية كثيراً بتطوير علاقاتها التجارية مع دول الخليج. إذ حتى ضمن القيود المشددة التي ظلت تحكم التجارة بين الطرفين حتى الآن، فقد تمكنت عدة شركات إسرائيلية من إقامة علاقات تجارية كبيرة نسبياً مع بعض الشركات الخليجية. ولا شك أن التجربة العملية خلال الأعوام القليلة الماضية قد بينت بشكل واقعي ضخامة الإمكانيات المتاحة لتطوير العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج، سواءً بالنسبة للتجارة السلعية أو الخدماتية.
وبغض النظر عن حجم الفرص المتاحة للتعاون الاقتصادي بين إسرائيل والدول العربية بعد التوصل إلى "السلام"، إلا انه يجب أن يكون واضحاً بأن هذا التعاون سيظل محكوماً بالموقف الذي تتخذه القيادة السياسية في كل بلد عربي إزاء تقييمها لمدى التزام إسرائيل بالاستحقاقات المترتبة عليها في إطار أية اتفاقيات يتم التوقيع عليها. وقياساً على مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالنسبة لمدى التزامها بالاتفاقيات التي توقع عليها، فان لا أحد، وبكل تأكيد ليس الطرف الفلسطيني، يمكن أن يكون واثقاً من جدية الحكومة الإسرائيلية بهذا الخصوص.
أخيرا، فانه من المهم جداً أن تضع جميع الأطراف نصب أعينها أن تحقيق الرفاهية للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، سواءً بعد أو قبل التوصل إلى تسوية سلمية للصراع في المنطقة، يجب أن يعطى أولوية متقدمة على مجالات التعاون الاقتصادي التي تقتصر على المردود الربحي. ومن المرجح بأن لا يكون هنالك أي تعارض بين المشاريع الربحية العربية الإسرائيلية والمصالح الفلسطينية الموضوعية، ولكن قد يكون لبعض أشكال التعاون الاقتصادي العربي مع إسرائيل انعكاسات سلبية بعيدة المدى. ومع انه من المبكر الحديث عن التفاصيل بهذا الخصوص إلا أن منح الفلسطينيين معاملة تفضيلية بالنسبة للتجارة السلعية وتدفق العمال عبر الخط الأخضر يجب أن يعتبر أحد أهم المرتكزات للعلاقات العربية الإسرائيلية في المجالات الاقتصادية. وبالطبع فأن لهذا الاستنتاج مبررات اقتصادية وسياسية أساسية سيقوم الجانبان بدراستها وترجمتها إلى سياسات وإجراءات محددة، وذلك عندما يتمكنان أخيرا من إعادة العملية السلمية إلى مسارها الصحيح.
_ د. هشام عورتاني هو أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، ومدير مركز تطوير القطاع الخاص.