مع اشتداد قبضة التيار الامريكي الاصولي على مقود السياسة الخارجية الامريكية المندفعة قدماً خلف راية "مكافحة الارهاب" تزداد باستمرار عبثية الخيارات المطروحة امام الشعوب المعرضة للعدوان بسبب خيارات مفروضة عليها لم تخترها ولا تستحق لفظ الخيارات الذي الصق بها. لقد وقفت الولايات المتحدة الامريكية بعد الحرب العالمية الثانية عندما بدأت بملء الفراغ البريطاني والفرنسي ضد دول العالم المستقلة حديثاً عندما تعارض هذا الخيار مع مصالحها كما عرفتها هي- ولذلك فقد تآمرت موضوعياً او بشكل واع مع القوى الاجتماعية المتخلفة والاصولية ومع اسوأ عناصر العسكر واكثرها رجعية عندما تطلب الامر ذلك- هذا ما حصل في مصر والارجنتين وايران وتشيلي واليونان والعراق وغيرها. لم تدعم الولايات المتحدة خيار التقدم والتحديث والتنوير ناهيك عن الديموقراطية في أي دولة في العالم تعارضت فيه هذه الخيارات مع مصالحها. وقد اعتبرت الديموقراطية مجازفة لا تمكنها من حساب عواقبها، او توقع نتائجها ولا تمكنها من حساب مصالحها بشكل واثق.

ولكن التيار الاصولي الذي يهيمن على السياسة الخارجية الامريكية في المرحلة الراهنة يطرح قضية الديموقراطية كعملية تصدير لثلاثة اسباب وجيهة: اولها، قناعته الاكيدة ان الصراع الجوهري في عالمنا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي هو صراع ثقافات وعقليات، وان "تصدير" الديموقراطية والعقلية السياسية الكامنة في لبها وجوهرها هو مظهر انتصار الثقافة الغربية على الثقافة المعادية للديموقراطية التي انتجت الارهاب. وثانيها، انه يعتقد ان مظهر الاعتدال والوسطية في السياسة الخارجية الامريكية كان "مسايرة" قوى رجعية ومتخلفة معادية بالمنطلق للثقافة الغربية ولم يطل الوقت حتى تحولت الى معاداتها بالهدف ايضاً، وقد انجب هذا العداء في الجيل الثاني والثالث العداء السياسي أيضاً ، وثالثاً، لأنها تعتبر التلويح اوالتهديد "بتصدير الديموقراطية" أداة لابتزاز الانظمة الصديقة لامريكا لكي تثبت في ولائها غير المشروط للسياسة الامريكية ولكي تتجند بكل طاقاتها ضد القوى الداخلية الاجتماعية والسياسية المرشحة لتبني العداء لامريكا.

يؤكد مثقفو الادارة الامريكية وكتابها على العاملين، الاول والثاني، في حين يؤكد سياسيوها على العامل الثالث. وهذا الاختلاف في النبرة يحدث في العالم كله نوعاً من الارتباك في تقييم كيفية تبني قوى رجعية امريكية للخيار الديموقراطي في الدول العربية فجأة وبدون سابق انذار يستحق الذكر.

ويزداد الارتباك ويختلط الحابل بالنابل في الدول المعرضة للعدوان او للضغط او للابتزاز الامريكي ليصل حد المسرحية العبثية التي يتكرر فيها تبادل الادوار خلف اسماء صماء ووجوه مستعارة بحيث يضيع "المشاهد". وقد تحول المواطن أصلاً الى مشاهد نتيجة وسائل الاعلام الحديثة دون الحاجة لهذه الاستعارة.

لقد طرحت القوى التقدمية والمتنورة في هذه الدول مسألة الديموقراطية في كثير من الحالات او طرحت مطالب ديموقراطية الطابع حتى عندما لم تكن ديموقراطية، وطرحت غالباً مطالب تحديثية، واصطدمت بذلك مع حلفاء امريكا في الحكم. وفجأة تحصل بلبلة تثير عند الانسان الاحباط واليأس من قصر ذاكرة المجتمعات والقوى السياسية في بلادنا. امريكا تهدد النظام وتبتزه مطالبة باصلاحات ديموقراطية، النظام الحاكم "يزعل" من امريكا ويتوجه الى الشعب بنبرة وطنية او دينية مطالباً بدعمه ضد الضغط الامريكي، ويصبح الدفاع عن النظام حليف امريكا مهمة وطنية، ويصبح مهمة القوى التقدمية والقومية التي تتملق مشاعر الجماهير ضد امريكا ان تدافع عن التخلف باعتباره قضية وطنية. فإذا كانت امريكا ضد مظاهر قمع المرأة يصبح العلمانيون مع مظاهر قمع المرأة كأنها قضية وطنية، واذا كانت امريكا مع الاصلاحات الديموقراطية نصبح ضد الاصلاحات الديموقراطية حتى اولئك الذين جلسوا في السجون مطالبين بالاصلاح.

وتستمر هذه العملية الى ان تعود الولايات المتحدة فترضى عن سلوك النظام عندها تعود القوى المتنورة والمدنية والقومية الى احضان الاصولية ضد النظام وضد امريكا سويةً.

وفي هذه الصورة المتحولة المتبدلة باستمرار والشديدة التوتر بايقاع التعددية والديموقراطية الوهمية الفضائية التي افردت مكانها مؤقتاً للمسلسلات الرمضانية لا ذكر للمواطن العادي، ناهيك عن المواطنة. كما انه لا ذكر لبرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي للنهوض بالمجتمعات المقصودة. ما هو برنامج القوى التقدمية في الدولة للنهوض باقتصادها او تحقيق العدالة الاجتماعية فيها او تحقيق المساواة امام القانون او المساواة في الفرص، ما هو برنامجها فيما يتعلق بالقضايا القومية وما هي استراتيجيتها؟ وكأن هذه قضية نظرية وغير هامة، واذا نسيت فسوف يذكرك الاعلام ان هذه امور غير مهمة، المهم هو سياسات الهوية والثقافة، وهذه وحدها. وأحياناً يخيل لي ان التيار الاصولي الامريكي، محور الشر الامريكي، قد نجح في تحويل الصراع الى صراع بين ثقافات. وقد تبنينا نحن صورة ثقافتنا التي فرضها علينا بصفتها صورة العدو بالنسبة له، واخذنا نقلد صورتنا التي رسمها لنا ونتعصب لها.

وآخر تجليات هذا الوضع الشديد العبثية والغرابة انهم الصقوا بنا فرية العداء للسامية، وكنا في الماضي اذا اتهمونا بهذه التهمة الكاذبة، تهمة العنصرية من اسوأ نوع، ندعي ان العداء للسامية ظاهرة اوروبية لا تعرفها ثقافتنا، وكنا نبالغ في وصف التسامح القائم في ثقافتنا، وكانت هذه المبالغة تأكيداً على سلبية الفرية وعلى الموقف ضدها. اما اليوم فإن التبرؤ من العداء للسامية اصبح تملقاً لامريكا، ولذلك يفضل بعضنا استيراد فرية روسية والتعصب لها. اختلق جهاز مخابرات النظام القيصري الروسي في نهاية القرن التاسع عشر ولاسبابه الداخلية اكذوبة حكماء صهيون، وكان بعضنا في ظروف اخرى سيدعي أنها افكار مستوردة ، ولكنها أسوأ من الافكار المستوردة انها وثيقة مخابراتية من نوع وثائق النازية من اجل اشغال الناس عن نظام القيصر بمؤامرة شيطانية تتم في كل مكان وزمان وفي لا مكان ولا زمان يمكن الاهتمام بها والانشغال بها ولكن لا يمكن محاربتها لا بالنضال ولا بالبرنامج.

الى هنا وصلنا، فمتى سنصل الى القاع؟ اتساءل ذلك لكي نفهم انه آن الأوان لتدرك القوى الوطنية والقومية التقدمية انه لا يمكن ان تبقى اسيرة ردود الفعل العاطفية والخوف من صورة جمهور غير موجود اختلقته وسائل الاعلام، وأنه آن الأوان لتعود هذه القوى الى الشعب الحقيقي الى الجماهير الحقيقية بخياراتها هي, خياراتها القومية والوطنية والديموقراطية وببرنامجها هي ضد الخيار الامريكي وضد التخلف والرجعية في الوقت ذاته.

*مفكر وكاتب، رئيس التجمع الوطني الديمقراطي- الناصرة.

عن شبكة الانترنت للإعلام العربي/ أمين