أحسن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات صنعا وتحركا عندما أعلن أن القدس الشريف هي عاصمة الدولة الفلسطينية وهي المقر الرئيس والدائم للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وان الدولة الفلسطينية هي صاحبة السيادة على القدس الشريف والاماكن المقدسة فيها وهي المسؤولة عن صونها وكفالة حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية كافة وذلك ردا على مصادقة الرئيس الاميركي جورج بوش على "قانون تفويض العلاقات الخارجية لعام 2003" والذي ينص على الاعتراف "الرمزي" بالقدس عاصمة لاسرائيل.
هذا القرار له خطورة كبيرة لكونه يجيء في وقت تسعى فيه اسرائيل الى تهويد الاماكن المقدسة الفلسطينية، وتجريد الشعب الفلسطيني بالمدينة من وثائقه المقدسية الثبوتية، وهو عملية ابتزاز اميركية جديدة لاعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لاسرائيل بصيغة قانون الاقرار التي رفضتها كل الهيئات العربية والدولية لانها تتناقض مع الشرعية الدولية الخاصة بالصراع العربي - الاسرائيلي وكذلك القوانين الدولية التي لا تجيز اكتساب الاراضي العربية بالقوة المسلحة ومع مبادىء وميثاق ومقاصد الامم المتحدة التي تسعى الى حفظ الامن والسلام الدوليين كما انها تتناقض ايضا مع الاتفاقات المعقودة بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية وبين اسرائيل والتي كانت الولايات المتحدة شاهدة عليها عندما وقعت اتفاقية اوسلو في البيت الابيض.
وليس ادل على الانحياز الاميركي لاسرائيل الا ما قاله شارون في البيت الابيض في السادس عشر من الشهر الجاري خلال لقائه مع الرئيس الاميركي من أن "اسرائيل لم تر صديقا وداعما حقيقيا لبلاده كما هو الحال في بوش".
وهذا بالطبع يؤكد الانحياز الشامل الاميركي لاسرائيل، ومباركتها لأعمال القتل والقمع والتدمير الاسرائيلي للبنى التحتية الفلسطينية، دون الالتفات الى المواثيق والاعراف الدولية، بل ان أميركا أرادت ايضا لذر الرماد في العيون ارسال مبعوثها الخاص للشرق الأوسط وليام بيرنز لكي تخفي ما تعد له اسرائيل من أعمال قمعية وبربرية ضد الشعب الفلسطيني في غزة وغيرها.. وكذلك النفطية على محاولات اميركا توجيه ضربة عسكرية للعراق وتنصيب حاكم عسكري اميركي هو وليام فرانكس عليها.
وهذه الاجراءات الاسرائيلية المدعمة من اميركا لن تفت من عضد الفلسطينيين بالاستمرار في مواجهة صلف الاحتلال وبربريته الوحشية المدعومة من أميركا... بل أن سياسته ستظل للاحتلال الاسرائيلي، حتى تقام دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف التي تم احتلال القدس الشرقية عسكريا وتهويدها في 28 يونيو، وتطبيق القوانين الاسرائيلية في المدينة وتولي الجيش الاسرائيلي مهام الشرطة المدنية والشروع في ازالة الحدود الفاصلة بين شطري مدينتي القدس الشرقية والغربية والواقع انه لم تكن مثل تلك الاجراءات الاسرائيلية سوى بداية مخطط مبرمج لعملية تهويد المدينة المقدسة حيث تلاحقت منذ ذلك التاريخ ممارسات التهويد الاسرائيلية بالمدينة بوتيرة عالية شملت كافة مجالات وقطاعات الحياة في المدينة بهدف طمس معالم المدينة المقدسة. وكان هذا يعني في التحليل السياسي الأخير أن اسرائيل قد جعلت القدس الشرقية منذ وقت مبكر مكسبا اقليميا حصلت عليه عن طريق استخدام القوة وذلك انتهاكا لكل قواعد القانون الدولي والمواثيق الدولية.
وأكد بن جوريون وقتها مخطط تهويد القدس دون سواها بتصريحات للصحيفة اليابانية (أساهي شيمبون) تحدث فيها عن مستقبل المناطق التي احتلتها اسرائيل في هذه الحرب قائلا: "إن اسرائيل ستنسحب من شبه جزيرة سيناء بعد توقيع اتفاق سلام مع مصر، والأمر ذاته سيحدث مع سوريا، أما في الضفة الغربية فإنه ستقام دولة تتمتع بالحكم الذاتي، برعاية الأمم المتحدة، لكننا سنحتفظ بالقدس الى الأبد، على الرغم من جميع القرارات التي ستتخذها الامم المتحدة، فالقدس كانت عاصمة اسرائيل على امتداد ثلاثة آلاف سنة وستبقى كذلك في المستقبل."
فالقدس لم تحظ بخصوصية القمم العربية حتى عام 1973 أول قمة عربية تورد القدس ضمن أربعة أهداف مرحلية للنضال العربي المشترك وجعلت القدس كهدف ثان بالعمل على تحريرها وعدم القبول بأي وضع من شأنه المساس بسيادة العرب الكاملة على المدينة المقدسة.
يعنى هذا أن قمة صانعي القرار السياسي العربي لم تدرك - كما أقول - خطورة ما جرى في القدس منذ الاسابيع الأولى لاحتلالها بينما كان بن جوريون (وهو خارج السلطة) أسعد الاسرائيليين كلهم مع احتلال القدس الشرقية وقدم وقتها مشروعه للكنيست بتوحيد القدس الغربية والشرقية (دون توسيع) حيث لم يكن بن جوريون وقتها يحلم الا بقدس صغيرة تكون عاصمة لاسرائيل في المستقبل.
وقد سارعت اسرائيل لرسم وتنفيذ التصورات والمخططات التنفيذية لهذا المشروع تحت رعاية خليفته ليفي اشكول الذي كان يفخر باحتلال القدس الشرقية في فترة حكمه 1966-1969 ثم جولدا مائير 1969-1974 واسحق رابين 1974-1977 ثم 1992-1995 ومناحم بيغن 1977-1983 واسحق شامير 1983-1985 ثم 1987-1992 وشيمون بيريز 1985-1987 ثم 1995-1996. وحاول كل واحد من هؤلاء ان يترك بصماته على المدينة المقدسة ويحاول آخرهم نيتانياهو ان يتوج عمله السياسي وفترة حكمه بحسم قضية القدس لصالح الدولة العبرية ويدخل بذلك التاريخ العبري من أوسع أبوابه ويتأكد هذا من تصريحاته منذ حملته الانتخابية وحتى الآن ومن أبرزها.
- "لقد تم انتخابنا حتى نسهر على القدس" من تصريحات نتنياهو عند افتتاح نفق القدس في سبتمبر 1996.
- "إن القدس لن تكون موضع تفاوض وليكن هذا معلوما بشكل نهائي" من تصريحاته في حديث نشرته صحيفة لوفيجارو الفرنسية في 18 يناير 1997.
- "لا أحد يريد اعادة بناء سور برلين في القدس وليس هناك مجال لحل وسط بشأن القدس"، من تصريحاته في حديث أدلى به للتلفزيون البريطاني في 22 يناير 1997.
- "سوف تستمر القدس غير مقسمة وتحت سيادتنا ولن نعيد تقسيم القدس" من تصريحاته في لقاء نظمه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في 13 فبراير 1997.
- "اعتزم البناء في كل انحاء القدس بما في ذلك ضاحية هارحوما"، من تصريحاته أمام الكنيست في 19 فبراير 1997.
- "ان القدس عاصمة اسرائيل الأبدية ولن تكون محل تفاوض وأرفض العدول عن خطة انشاء الحي اليهودي الجديد (هارحوما) في القدس الشرقية" من تصريحاته نشرتها صحيفة الفاينانشيال تايمز في 1997.
وتواصل اسرائيل جهودها حاليا على تهويد البلدة المقدسة وطرد واحلال سكانها العرب باليهود وذلك بالاستمرار بما بدأته من تدمير حي المغاربة وبناء الحي اليهودي فضلا عن عدد المستوطنين في الاراضي المحتلة يقارب الاربعائة الف مستوطن من مختلف انحاء العالم منها حوالي 250 الفا يسكنون مدينة القدس وان ثمانين بالمائة من مياه الضفة الغربية والقطاع تستغل وتستثمر من قبل المستوطنين و30% من مياه اسرائيل مصدرها الضفة الغربية.
لقد فصلت اسرائيل القدس جغرافيا عن بقية الضفة الغربية بعد تطويقها بسلسلة من المستوطنات القلاعية والبشرية وتم الابقاء على انفصال قطاع غزة عن الضفة ومن ثم عملت اسرائيل على تمزيق الاراضي الفلسطينية وتم تحويل عمق الضفة الغربية الى ضواحي مدن القدس كما تم فصل فلسطين عن الاردن ومصر عن عرب المثلث بسلسلة من المستوطنات لمنع التواصل الجغرافي فيما بينها. وسعت الى زيادة عدد المستوطنين بشكل كبير علما ان عدد اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين وقت صدور وعد بلفور المشؤوم في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 لم يتجاوز 56 الفا حيث كانوا يشكلون 8% من عدد السكان بينما كان عدد السكان الاصليين مسلمين ومسيحيين يصل الى 664 الفا ويشكلون ما نسبه 92%.
ولعل المؤرخ الفلسطيني الدكتور وليد الخالدي في كتاب القدس من العهدة العمرية الى كامب ديفيد الثانية قد وضح بجلاء وبوضوح الحقائق الخاصة بالقدس والتي تتمثل بهذه البراهين والادلة الدامغة ضد الولايات المتحدة واسرائيل.
- القدس الغربية احتلت بقوة السلاح ووسعت غربا على حساب اراض عربية صرفة ولا تتعدى ملكية اليهود فيها 15%.
- القدس الشرقية احتلت بقوة السلاح ووسعت شرقا على حساب اراضي الضفة الغربية ولا تتعدى الملكية اليهودية فيها 2%.
- المساحة المتبقية في ايدينا من الـ 71كم2 من بلدية القدس الشرقية الموسعة لا تزيد على 5.7كم2 والباقي مستعمرات ومناطق حضر تتداخل بين الاحياء العربية.
- المدينة القديمة بأسرها لا تزيد على كيلومتر مربع واحد والحيان العربيان فيها الاسلامي والمسيحي لا تزيد مساحتهما على 5.0كم.
- يحيط بالقدس الشرقية طوقان من كتل المستعمرات: طوق القدس الكبرى ويضم 330كم2 من اراضي الضفة وطوق حاضرة القدس ويضم 665كم2 من اراضي الضفة وهذه الاراضي بمثابة احتياط ضخم للتوسع الاستيطاني المستقبلي حول القدس.
ما الذي تكرم به باراك وكلينتون في قمة كامب ديفيد بالنسبة الى القدس؟
اقترح باراك وكلينتون اما السيادة والحكم الذاتي على الحيين العربيين الاسلامي والمسيحي داخل البلدة القديمة (اي على 5.0كم2" وعلى بعض وليس جميع الاحياء العربية خارج الاسوار في القدس الشرقية بمساحة 5.7كم2 من مجموع 71كم2.
فماذا تكون الحصيلة؟
الحصيلة تكون قدسا عربية صغيرة مبعثرة محاصرة ناقصة السيادة غير قابلة للنمو غير متصلة بمطارها "قلندية" او بمحيطها او بعالمها الخارجي. بحيث لا تستطيع تكون الكيان الحي المتماسك النابض النامي والرابط بين جبل نابلس شمالا وبين جبل الخليل جنوبا الواجب وجوده عاصمة لما تبقى من فلسطين ومع ذلك طلب كلينتون وباراك مقابلا واي مقابل.
طلبا، في المقابل التخلي عن جميع الحقوق العربية في القدس الغربية المحتلة انتهاكا للقانون الدولي والموسعة غربا على حساب اراض عربية اضافية مسروقة بحيث لا تبلغ ملكية اليهود فيها ككل (اي القدس الغربية) 15 في المائة وطالبا بالاعتراف بالسيادة الاسرائيلية عليها.
طالبا بالتخلي عن الحقوق العربية في الاراضي التي بنيت عليها المستعمرات المستحدثة الثماني داخل بلدية القدس الشرقية الموسعة وبالاعتراف بالسيادة الاسرائلية عليها.
طالبا بالتخلي عن الحقوق العربية في المناطق الخضر داخل بلدية القدس الشرقية الموسعة وبالاعتراف بالسيادة الاسرائيلية عليها.
طالب بالتخلي عن الحقوق العربية في اراضي كتل المستعمرات التي انشئت داخل طوقي القدس الكبرى وحاضرة القدس وبالاعتراف بالسيادة الاسرائيلية عليها.
طالبا بضم كتل المستعمرات في هذين الطوقين الى حدود بلدية القدس اليهودية.
ولعل الموقف الامريكي الاخير باعتبار القدس عاصمة لاسرائيل ينطوي على تخل شبه كلي عن سابق تعهدات الادارة الامريكية ونكث لسالف عهودها وتطميناتها كما انه يكشف عن التقاء بين الادارة والكونغرس لاول مرة منذ عام 1948 على ارضية مشتركة تجاه القدس الموحدة اسرائيليا.. وهو التقاء يلغي دور الضابط الذي مارسته الادارة على مسطحات الكونغرس وانحيازه اللامشروط تجاه العدو الاسرائيلي.
*مدير تحرير جريدة الدستور الاردنية.