ينتاب قلق مشروع الأوساط السياسية والشعبية الفلسطينية، مما يجري التحضير له من عدوان مبيت على العراق الشقيق، ومن التفاعلات والانعكاسات التي قد تنجم عنه على الوضع الفلسطيني، ومع مرور الوقت واقتراب انتهاء مهمة فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل تتزايد وتتصاعد وتيرة حدة التصريحات الأمريكية والمترافقة باستمرار مع لهجة تهديدية وقحة تعكس الغطرسة والعنجهية الأمريكية، واستخفافها بالنتائج الأولية المتحصلة عن فرق التفتيش، بل وأنها تستبق الأمور وقبل أن تنهي هذه الفرق أعمالها ويقدم رئيس اللجنة هانز بليكس تقريره لمجلس الأمن، تبدوا الإدارة الأمريكية وقد أصدرت حكمها سلفا، وكشفت عن نواياها بشن الحرب على العراق، هذه اللهجة المتعالية والاستفزازية الموجهة ضد العراق والعرب عامة، تعكس من جهة أخرى ازدواجية المعايير والمكاييل الأمريكية، وتبين بمنتهى الوضوح أن الهدف ليس نزع أسلحة الدمار الشامل كما تدعي حرصا على الأمن والاستقرار في العالم، لأن كوريا الشمالية التي تتحدى الإرادة الأمريكية تمتلك فعلا مقومات لإنتاج سلاح نووي خلال ستة أشهر، مع امتلاكها سلفا وسائل الإطلاق من صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية، ولو كان فعلا الهد

ف مواجهة الخطر النووي لكان أولى بالولايات المتحدة الاهتمام بما يجرى هناك في كوريا واقعيا وليس بما هو محض افتراءات وتلفيقات في العراق.

أن ازدواجية المعايير التي تتبدى في حرص الإدارة الأمريكية على حل القضايا العالقة مع كوريا بالطرق الدبلوماسية، والتشدد والاصرار على الحل العسكري في العراق يشي بما هو ابعد من قضية أسلحة دمار شامل مفترضة، لتصل إلى ترتيب وإعادة صياغة خريطة المنطقة السياسية ارتباطا بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية والتي يأتي النفط في المقدمة منها، وفي سياقها فرض دور إقليمي لإسرائيل من خلال أضعاف كل الأطراف في المنطقة وخلخلة بنيانها لصالح هذا الدور الذي ستتزايد أهميته وتتوسع حدوده ومجالاته كنتيجة للعدوان على العراق.

وتشير بعض السيناريوهات، والتي تقوم بترويجها العديد من الجهات لأهداف باتت معروفة ارتباطا بخلق مناخ عام يتولد منه رأي عام دولي ليتقبل فكرة توجيه ضربة للعراق، أن رئيس اللجنة بليكس سيقدم تقريره في السابع والعشرين من الشهر الجاري، وفي الثامن والعشرين ستجري الانتخابات الإسرائيلية، وفي التاسع والعشرين ستتقدم الولايات المتحدة لمجلس الأمن بادعاء أن العراق خرق قرار مجلس الأمن، ولم يتعاون مع فرق التفتيش، أو انه ما يزال يخفي أسلحة ولم يفصح عنها ولم تستطع فرق التفتيش الوصول إليها، وذلك كله بادعاء معلومات "موثقه" من مصادر لا يريد الإفصاح عنها، على طريقة اعتقال وتوجيه التهم للمواطنين العرب خاصة والمسلمين عامة في الولايات المتحدة، التي تطاردهم أجهزة الأمن وتنتهك حرياتهم الشخصية والمدنية، بذرائع مكافحة الإرهاب وبالاستناد لمعلومات استخباريه ملفقة.

وتتولى هذه السيناريوهات أيضا مهمة الترويج لحجم وأبعاد الضربة ونوعية الأسلحة التي قد تستخدم وعدد القوات التي يجري استحضارها وحشدها في المنطقة، لخلق وبث مناخ من الخوف والرعب في نفوس أبناء المنطقة لقطع الطريق أمام أية نوايا في التفكير بمعارضة هذه الحرب العدوانية.

وفي ظل هكذا مناخ الذي تترافق فيه مشاعر الخوف والقلق على المصير العام، تتوالى التحليلات والتقديرات عن ما ستسفر عنه الضربة الأمريكية للعراق، وهذه التقديرات تتراوح مابين المتشائم جداً بعودة المندوب السامي للمنطقة، لكنه هذه المرة أمريكي وليس بريطاني، إلى متشائمة بفرض المزيد من القيود والأملاءات على دول المنطقة تستلب ما تبقى لديها من سيادة وطنية. لكن بعيداً عن هذه التقديرات التي تتراوح مابين متشائمة جداً ومتشائمة، من الممكن قراءة الوضع وتقدير مدى انعكاسه على الوضع الفلسطيني باعتباره احد المؤشرات الهامة لصورة الوضع العام في المنطقة وذلك على النحو التالي:

- قد يسفر العدوان عن تغيير النظام السياسي في العراق وتنصيب نظام موال للولايات المتحدة الأمريكية، ويتساوق مع سياساتها على المستوى الاقتصادي وخصوصا النفط، والاستراتيجي العسكري في الخليج العربي، بما في ذلك الانخراط في السياسية الإقليمية التي تدعمها وترعاها الولايات بتطبيع العلاقة مع إسرائيل، ولم يخف أطراف ما يسمى بالمعارضة العراقية عن استعدادهم ونيتهم لإنهاء حالة العداء ولفتح علاقات طبيعية مع إسرائيل.

- تغيير في خارطة المنطقة، من زاوية أعادة صياغة التحالفات العربية العربية، ومن تغيير أيضا في بعض الأدوار الإقليمية التي تلعبها دول مركزية كمصر وسوريا والعربية السعودية، وهذا سيترك اثر على الموقف العربي العام اتجاه القضية الفلسطينية، ليس على مستوى الاهتمام والمتابعة فحسب، وإنما باعتبارها قضية تمس الأمن القومي لهذه البلدان.

- من الممكن أن توفر حالة الإحباط واليأس التي ستتولد عن الضربة الأمريكية إعادة الاعتبار لصيغة النظام الشرق أوسطي والتي ستلعب فيه إسرائيل الدور المحوري امنيا واقتصاديا بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية.

- في غمار الحرب العدوانية الأمريكية، وأثناء احتدام المعركة، سوف تحاول حكومة شارون استثمار انشغال العالم بما يجري في العراق والأقدام على عدوان عسكري شامل على الشعب الفلسطيني يستهدف تدمير والقضاء على ما تبقى من رموز الكيانية الوطنية الفلسطينية، تمهيدا لفرض وقائع جديدة في إطار ترتيبات الوضع في المنطقة بعد العدوان، ويجري تسريب لبعض السيناريوهات والتي تركز على التالي:

1- فرض حالة من الإرهاب العسكري والأمني، وتشديد إجراءات الحصار والإغلاق على كافة المناطق الفلسطينية بما في ذلك منع التجول في المدن لفترات طويلة طيلة فترة العدوان على العراق بذريعة الحفاظ على الأمن ومنع أية ردود فعل فلسطينية انتقامية لما يجري في العراق.

2- اجتياح مقر الرئاسة الفلسطينية وخلق وضع هو اقرب مابين القضاء على الرمزية الكيانية للرئيس الفلسطيني، وفتح الباب مواربا أمام إبعاده عن الأراضي الفلسطينية، بوساطة عربية.

3- محاولة اجتياح قطاع غزة، أو ما يطلق عليها القيام بعملية تنظيف لجيوب المقاومة فيها، وضرب البنية التحتية للإرهاب، مما يعني عمليا إعادة احتلال قطاع غزة، وفرض سياسة أمر واقع عليه كما هو حال الوضع في الضفة الغربية.

4- القيام بعملية تهجير أو ترانسفير داخلية، بهدف أجراء تغييرات على الخريطة الديمغرافية في المناطق المحيطة بالقدس أ أو في المناطق المتاخمة للخط الأخضر سواء في الضفة الغربية أو في شمال قطاع غزة.

5- القيام بعملية ترانسفير خارجية تستهدف طرد وأبعاد المعتقلين والأسرى الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم أثناء حملات المداهمة والاعتقال السابقة والتي ستتواصل في غمرة العدوان على العراق كأجراء وقائي، عملية الأبعاد هذه هدفها إبعاد النشطاء السياسيين والقيادات الميدانية وذلك ارتباطا بما يمكن اتخاذه من ترتيبات لاحقة.

- توظيف نتائج العدوان الأمريكي وما سوف يحدثه من متغيرات إقليمية في المنطقة، وكذلك ما سوف تقوم به حكومة شارون من إجراءات ضد الحركة الوطنية الفلسطينية لفرض سقف سياسي جديد للتسوية السياسية، أقل مما هو معروض حاليا في خارطة الطريق، ويكون أشبه بفرض الاستسلام، وذلك تمشيا مع المناخ العام الذي سيولده العدوان على المنطقة بشكل عام، وانحسار الدور العربي وشل فاعليته نهائياً.

إن صورة ما يمكن توقعه ووقوعه من جراء العدوان على العراق، لا يمكن اعتباره قدرا لا مفر منه، أولا يمكن تفاديه والتقليل من مخاطره وأثاره الضارة والمدمرة على قضية شعبنا، بل إن تطوير صيغ الحوار التي بدأت في القاهرة الشهر الماضي، واتخاذ مبادرة فلسطينية تعكس موقفا موحدا لتجاوز هذا الخطر الداهم تقوم عل أساس تحييد وإخراج المدنيين من دائرة الصراع، وتوفير سلاح بيد البلدان العربية التي تحاول أن تلعب دورا انطلاقا من إدراكها للمخاطر المترتبة على المنطقة ما بعد العدوان، وتوفير نفس الوسائل لدور أوروبي، من الممكن أن يخلق حالة ضغط دولية لتوفير ضمانة دولية، تشكل سياجا مانعا أمام المخططات العدوانية الإسرائيلية، من محاولات القضاء على الكيانية الوطنية الفلسطينية.

إن هكذا مبادرة ممكنة التحقق انطلاقا أيضا من أن العدوان الإسرائيلي لن يصيب هذه الكيانية فحسب ولا القوى المكونة لها، وإنما سوف يطال الجميع ولن يستثني أحداً ولا يتطلب الأمر ليس النظر بما قائم اليوم بل بما هو آت غداً، والمسؤولية السياسية ليست خطابا موجها للجماهير فحسب،بل هي أهم واشمل، فإن لم تكن قادرا على تحقيق المكاسب في لحظة تاريخية معينة يكون الحفاظ على الذات وتقليل وتجنب الخسائر مكسبا في حد ذاته .