استوقف "أبو محمود" خبر في النشرة الاقتصادية - والتي من النادر أن يسمعها - يقول أن الاقتصاد الإسرائيلي يمر بأسوأ أحواله منذ أكثر من خمسين عاماً..وأن أسباب ذلك تعود أولاً إلى الانتفاضة التي أوقفت السياحة وإلى قلة العمال العرب في قطاع الزراعة والصناعة، ثم إلى قلة الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل، وأخيراً بسبب الانهيارات في الاقتصاد الأمريكي خاصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات.

وبينما كان يحاول أبو محمود هضم هذه الأخبار وفهم مغزاها دخل عليه ولده مسرعاً يقول "علينا أن ننزل إلى الطابق السفلي..فهناك بعض الطائرات الإسرائيلية في الجو ويبدو أننا معرضون للقصف". وكان ذلك متوقعاً على أية حال..فقد تم في ذلك المساء قتل أكثر من عشرين إسرائيلياً في تل أبيب في عملية انتحارية!

وفي الدور السفلي للعمارة وجد بعض السكان رجالاً ونساءً وأطفالاً يفترش بعضهم الأرض، ويجلس آخرون على ما توفر من مقاعد بينما دارت الصواني توزع الشاي، أم تهدهد طفلها الباكي، وأخرى وضعت وليدها في حضنها وحولها ثلاثة أطفال يلعبون بأوراق وأقلام "ويعملون الواجب".

قاده ولده إلى غرفة صغيرة وجد فيها كالعادة بعض الجيران..وكلهم تقريباً يدخنون ويتجادلون، وسمع أحدهم يقول "لم تجلب لنا هذه الانتفاضة سوى الخوف والدمار".

ورد عليه آخر "يبدو أنه لم يعد من الممكن التوقف وليس هناك من قيادة واحدة تحكم في الأمور ولم يبق علينا سوى أن نوجع إسرائيل كلما استطعنا حتى تستسلم!".

وعلق ثالث "ولكن إسرائيل هي التي توجعنا فنحن لا نستطيع الوقوف أمام الطائرات والدبابات وهدم البيوت واعتقال الآلاف..إننا الخاسرون حتى الآن".

وقال أبو نزار "إن البعض يظن أن العمليات الاستشهادية هي الرد الوحيد الذي نقلب فيه الموازين، ولكن هناك طرقاً أخرى كثيرة لو استطاع الفلسطينيون استعمالها مثل سلاح الرأي العام والمقاومة السلمية بما فيها المقاطعة الاقتصادية في جميع أنحاء العالم، بل إنني أظن أن العمليات الاستشهادية قد أضرت بكل ذلك وجعلت إسرائيل وكأنها ضحية".

فتدخل أبو محمود في الحديث قائلاً "أنا لا أؤيد العمليات داخل إسرائيل ولكني لست ضد مقاومة الاستيطان والمستوطنين..فالعمليات ضد المدنيين تضرنا حيث أنها تقوى شارون وتجعلنا نبدو إرهابيين في نظر العالم".

فصاح شاب "إن شارون هذا في أسوأ أحواله فهو لم يستطيع تحقيق السلام ولا جلب الأمن، ولهذا فهو يضعف بسبب العمليات الاستشهادية".

فرد عليه أبو نزار "لو تركنا شارون لفضائح الفساد في حزبه لانهزم، ولو تركناه للضمير العالمي لانهزم، ولو تركناه للمعسكر اليهودي الذي يريد السلام لانهزم، ولكنا نساعده للأسف".

واستطرد الشاب "إن الاقتصاد الإسرائيلي في أسوأ أحواله، وهذا هو الذي سيهزم شارون".

ودخلت في هذه الأثناء أم محمود بصينية الشاي ووضعتها على طاولة صغيرة والتفتت إلى الشاب وسألت "وماذا عن الاقتصاد الفلسطيني، إن الناس هنا في أسوأ أحوالها منذ 48، إنهم في إسرائيل معهم أمريكا ولن تتخلى عنهم، وأما نحن فإننا لن نجد غير بعض الصدقات العربية أو الأوروبية".

وصمت الجميع والسيدة تقول "لقد عادت مناظر الأطفال الذين يتسولون في مفترق الطرق، والنساء التي تدق الأبواب من أجل رغيف..وهناك ما نسمعه عن فتيات تبيع أجسادها".

فقاطعها الشاب قائلاً "يا أمي..إن الأخلاق لا علاقة لها بالفقر..فمن أرادت حفظ شرفها تموت دونه حتى من الجوع..إن معركتنا طويلة وفي النهاية فإن المنتصر هو من يصمد أطول".

وانصرفت السيدة وعلق أبو محمود "إن اقتصادنا الفلسطيني في حالة انهيار..فالمقارنة بما كنا عليه قبل الانتفاضة فنحن اليوم في حالة كارثية، بطالة وهروب الاستثمارات وفقر عام في الموارد..انظر إلى ما يقوله وزير المالية الجديد في مشروع الميزانية الذي قدمه للمجلس التشريعي".

ونظر إليه الجميع في احترام..إنه دائماً يأتي إليهم بالأخبار من مصادرها وسرّ أبو محمود وهو يرى نظرات الإعجاب من حوله فاستطرد يقول "إن معدل النمو الاقتصادي السنوي في فلسطين كان قبل الانتفاضة حوالي 2,5% وهو من المعدلات الجيدة في العالم وكان هناك مشاريع إنتاج الكهرباء والتنقيب عن الغاز الذي كان يمكن أن يتم التعاقد على بيعه للدول المجاورة، وكان ذلك سيكون مصدراً للدخل، وكان هناك مشاريع للتنقيب عن البترول، بالإضافة إلى النمو الهائل في مشاريع الإسكان وتطوير البنية التحتية التي استوعبت عمالة كثيرة، وكان معدل دخل الفرد قبل الانتفاضة حوالي 1600 دولار، أما الآن فهو أقل من 700 وهناك نسبة 65% من السكان تعيش تحت خط الفقر".

وتمتم أحدهم "لقد كنا بخير وكنا على طريق التقدم لو أنهم اتفقوا على السلام..ولكن قدرنا وحظنا مع هذه السلطة كان سيئاً من أول يوم..كان الله في العون"، فرد عليه آخر متحفزاً "إنك دائماً تلوم السلطة وتنسى أن الأصل في كل الشرور هو الاحتلال"، والتفت إلى أبو محمود وسأله "وماذا عن الميزانية الجديدة التي ذكرتها يا أبا محمود؟".

فاعتدل أبو محمود وقال "أولاً لمعلوماتكم هذه هي المرة الأولى في تاريخ السلطة التي يتم فيها تقديم الميزانية للمجلس التشريعي في موعدها وهو بحد ذاته إنجاز هام، وثانياً فإن الوزير قد وضع في الميزانية تصوراً واقعياً للحالة وأوضح مقدار العجز المالي الذي تواجهه السلطة، وثالثاً فإنه أوقف الإنفاق على أي شيء ليس له بنداً في الميزانية، وأكثر من ذلك إنه سيوقف العطاءات إلا من خلال وزارة المالية وليس كما يحدث اليوم حيث يقوم الجهاز العسكري مثلاً بعمل عطاءات دون مراقبة من وزارة المالية، وكذلك فإن جميع الموظفين بما فيهم العسكريين سيتم توريد مرتباتهم إلى حساباتهم في البنوك حتى يتم فعلاً صرف الرواتب لمن هو موظف وليس كما هو الحال من التسيب، وكذلك فهو الآن مسئول ضمن مجلس إدارة عن جميع الاستثمارات الفلسطينية في الداخل والخارج وسيقدم عنها في الوقت المناسب كشفاً تفصيلياً بالحساب".

وعلق أبو نزار بهدوء قائلاً "إن في كل ذلك ثورة حقيقية..ولو كل وزير قام بعمله لانتقلنا إلى عالم النهضة، ولكني مازلت أظن أنه لن يكون قادراً على السيطرة على الاحتكارات وعلى تدخل الأجهزة الأمنية على المعابر التجارية".

فقال شاب "المهم أن تستمر الانتفاضة والعمليات الاستشهادية وأن نصمد وأن نتحمل".

فصاح به أبو محمود "دعنا من هذا الكلام ولنكن مرة واحدة واقعيين، فنحن في نهاية الأمر سنعيش في دولة بجانب إسرائيل، فلماذا كل هذا الخراب والضياع والقتل ونحن نعرف النتيجة؟ هل تعرف ما هي الحقيقة؟ الحقيقة أنه لن تنفعنا أمريكا ولا بريطانيا ولا العرب، الحقيقة أننا يجب أن نتفاهم مع اليهود وخاصة يهود أمريكا فهناك الحل والربط".

فرد الشاب "وهل كنت تضمن أنهم سيعطوك دولة لولا الانتفاضة؟".

فقال أبو محمود "وإذا كنت تظن بأننا اليوم أكثر قرباً للدولة بسبب الانتفاضة..فإنك واهم، لقد وقف العالم معنا لأننا أصحاب قضية في الانتفاضة الأولى، أما اليوم فنحن في ركب أسامة بن لادن..وحتى أصدقاؤنا بدأ يظهر الشرخ في صفوفهم".

علق آخر "الخراب على الجميع، ومازال أكثر منه على الطريق"، وقام أبو محمود من مقعده..وفكر في العودة إلى الشقة..لكنه سمع فجأة دوياً لانفجار صاروخ فعاد إلى مكانه!!.

*الكاتب مدير عام برنامج غزة للصحة النفسية، وناشط في مجال حقوق الإنسان.