محاولات رئيس الحكومة الإسرائيلية المتكررة التهرب من تقديم موقف اتجاه خارطة الطريق، أثار لدى أوساط معينة في الإدارة الأمريكية مزيدا من الحرج اتجاه الحلفاء الأوروبيين والعرب، ووضع علامة استفهام جديدة لدى الأطراف الدولية الأخرى التي عارضت الحرب على العراق بازدواجية المعايير الأمريكية من جهة والمصداقية الأمريكية بطرح وتنفيذ خطة خريطة الطريق بعد الانتهاء من موضوع العراق.
ورغم ما يمكن أن يقال من أن حلفاء شارون في الإدارة الأمريكية وقوة نفوذهم وتأثيرهم على القرارات التي تتخذها الإدارة الأمريكية، فإن الولايات المتحدة التي تعزز نفوذها ودورها كلاعب وحيد في المنطقة والعالم دون منافسة تذكر، يطرح على بساط البحث المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وكيفية تأمينها أولا كأولوية وفي سياقها ومن ضمنها المصالح الإسرائيلية التي ارتفع وتطور حجم الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين خلال السنوات العشر الماضية إلى مدى غير مسبوق بالعلاقات الدولية بين الدول المستقلة.
ويبدوا أن شارون لم يجد بداً من التعاطي مع الرغبة الأمريكية بإعلان التزامه بخارطة الطريق رغم تهربه من اللقاء مع الرئيس بوش محاولا توظيف العمليات الانتحارية الأخيرة ليس كسبب للتهرب فحسب وإنما ليضع نفسه في خانة الجبهة الدولية المناهضة للإرهاب "كونه من ضحايا الإرهاب"، غير إن هذا التوظيف والتهرب لم يحل دون أن يقدم ما عليه من استحقاقات للشريك الأكبر الولايات المتحدة، ووجد نفسه أما خيارات صعبة، أما المواجهة مع الإدارة الأمريكية الخارجة من الحرب منتصرة ولديها من القوة الداخلية التي تضعف أمامها قوى مصالح الضغط الداخلية في الإدارة والكونغرس، وهذا المواجهة ستؤدي بالتأكيد لخسائر ليس على الصعيد السياسي والدبلوماسي فحسب وإنما أيضا على الصعيد الاقتصادي وفي المقدمة منها ضمانات القروض بقيمة التسعة مليارات دولار، إضافة إلى عقد التسليح مع الهند بعدة مليارات أخرى، هذا الخيار الصعب في ظل الظروف الاقتصادية المتفاقمة منذ اندلاع انتفاضة الأقصى دفعت شارون لأخذ هذا الخيار وهو الخيار الأقل سوء مقابل أن ينحني أمام الاستحقاقات الراهنة محاولا قدر الامكان أن يوظف قوى الضغط التي لديه من حلفائه داخل الإدارة الحالية أم داخل الولايات المتحدة في ظروف مواتية أكثر لتجويف وإجهاض الخطة الخارطة.
اختيار شارون مدير مكتبه وليس وزير الخارجية بالتوصل إلى صيغة البيان الإعلان الأمريكي عن موافقته على الخطة الخريطة له أيضا دلالته فيما يتصل بطريقة تسويق هذه الموافقة داخل الليكود والإتلاف الحكومي القائم الآن، وهو ما تبين لاحقا بطريقة التصويت والموافقة للحكومة الإسرائيلية على الخطة الخارطة.
لكن الشيء الهام والأساسي الذي حظي شارون به من التوافق مع الإدارة الأمريكية ليس بتفاديه المواجهة معها لرفضها بعض مطالبه التعجيزية المرتبطة بالتنازل الفلسطيني عن حق العودة، وبرفض المبادرة السعودية فيما يتصل بالعودة لحدود 1967. فإنه وهو يعلم تمام المعرفة إن هذه الاشتراطات من جانبه وخاصة في هذين البندين هما من المطالب التفاوضية لتمرير الاشتراطات الأخرى فقد كان من غير المقبول على الإدارة الأمريكية قبول رفض المبادرة العربية وهي تسعى لتسويق الخطة الخارطة عريا أثناء زيارة الرئيس بوش للمنطقة ولقاءه مع قادة عدد من دول المنطقة وكذلك قبول مسألة إلغاء حق العودة رغم ما يثيره ذلك من تداعيات إقليمية عربية.
ومن هنا فإن الشروط التي حظي بها شارون في صفقته مع الإدارة الأمريكية كانت أكثر من مربحة على المستوى الاستراتيجي لإسرائيل، فهو لم يكتف بتجنب مواجهة لا طائل ولا فائدة من ورائها مع الإدارة الأمريكية فحسب، بل انه استطاع أن يفرض تغيرا في الخريطة، وذلك بإقرار أمريكي بمعالجة معظم الملاحظات الإسرائيلية عند التطبيق، فإدارة الرئيس بوش تصر أن لا تغيير في الخطة الخارطة على الورق، وهو ما يرضي العرب والفلسطينيين ويشجعهم على المضي قدما في العملية حتى النهاية، في حين انه قدمت ضمانات بالتغيير أثناء التطبيق مما يعني ، أن الولايات المتحدة عادت لممارسة سياسة الغموض البناء التي انتهجتها إدارة جورج بوش الأب عندما أعطت رسائل ضمانات متقابلة ومتعارضة لمختلف الأطراف، وتركت الأمور تسير إلى أن وصلت إلى حد التصادم في مفاوضات واشنطن وعندها انتقلت الولايات المتحدة من دور الوسيط إلى دور الشريك لإسرائيل.
غير إن المكسب الهام والأساسي الذي أكدت إسرائيل حصولها عليه هو أن التقدم بتطبيق الخارطة وخاصة في المرحلة الأولى سيتم بشكل متوالي وليس متوازي، أي إن يقوم الفلسطينيون بكل ما عليهم وبعد ذلك تقرر إسرائيل إذا كان ذلك كافيا وملائما لقيامه بتنفيذ التزاماتها.
ويترافق مع هذا المكسب استبعاد المشاركة الأوروبية من الرقابة على التنفيذ وحصرها بالرقابة الأمريكية المشكوك سلفا في نزاهتها وحيادها، وهنا ليس هذا الخطر فحسب وإنما أن الولايات المتحدة أصبحت هي المرجعية في تطبيق أي اتفاقيات بديلا لقرارات الشرعية الدولية.
مما يعني أن الولايات المتحدة وانطلاقا من انحيازها وشراكتها لإسرائيل ستقرر في أي ولأي حدود سوف يتم تطبيق الخارطة الخطة. لقد جاءت موافقة الحكومة الإسرائيلية على الخطة اقرب إلى الرفض المغلف بالقبول، فهي بالواقع رفضتها من خلال الشروط التي وضعتها والتي تتقابل مع الموافقة الأمريكية على قبول هذه الاشتراطات عند التطبيق.
لذا فإن هذه الخدعة الإسرائيلية إذا لم تفضح وسريعا أمام الرأي العام العربي والعالمي، فإن شارون سيسعى للظهور بمظهر الساعي للسلام ويحمل الفلسطينيين لاحقا مسؤولية الفشل في العملية السلمية التي يعمل هو على تقويضها وإنهائها.
إن موقفا فلسطينيا رسميا بات اليوم مطلوبا أكثر من أي وقت مضي ليس بفضح الألاعيب الشارونية فحسب، وليس بالإصرار على ممارسة التكتيك السابق بإلزام شارون على القبول بالخطة الخارطة بدون أي تعديل، وإنما بطرح تعديلات فلسطينية عند التطبيق مقابل أي تعديل إسرائيلي، وعدم الانتظار والاتكال على مصداقية الوسيط الأمريكي بقدر ما يمكن أن نقوم بحشد من مواقف دولية أخرى لها مصلحة في استئناف عملية السلام ووصولها لنهاياتها.
كما إن من المفيد التبكير باختبار المصداقية الإسرائيلية والأمريكية وكشفها، من خلال التقدم سريعا بالمطالبة بوضع جدول زمني للأنسحاب من كافة الأراضي الفلسطينية التي أعيد احتلالها بعد 28 أيلول 2000 وتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي بهذا الشأن وكذلك وقف العدوان والاغتيالات والاستيطان ومصادرة الأراضي بحجة الجدار الأمني الفاصل.
إن هذه الاختبارات إضافة إلى اختبار إعلان رسمي من الحكومة الإسرائيلية بالتوازي مما هو مطلوب فلسطينيا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وبوقف التحريض وإلى ما ذلك مما يتعلق بهذا البد من المرحلة الأولى من خارطة الطريق، إن هذا الاختبار يضع مصداقية حكومة شارون على المحك ويفضح نواياها الحقيقية ويبين إلى مدى ستلتزم الولايات المتحدة بتطبيق خارطة الطريق بدلا من حشر الموقف الفلسطيني ببند محاربة الإرهاب فقط، وتحول هذا البند إلى معيار لتطبيق الفلسطينيين للالتزامات التي عليهم.
وحتى يتعزز الموقف الرسمي الفلسطيني، فإن استئناف الحوار وتطوير صيغته التي ابتدئها رئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس مع حركة حماس من شأنه أن يوفر قوة إسناد ودعم للحكومة الفلسطينية من توفير المناخات الضرورية لنجاح تحركها السياسي وسحب الذرائع من يد شارون وحكومته للتملص من التزاماتهم اتجاه تطبيق الخطة الخارطة.
إن تطوير صيغة الحوار الوطني وتعميقه يتطلب توفير المناخات للوصول إلى صيغ توافق وطني على الأساسيات والتي في المقدمة منها اعتبار الاحتراب الداخلي خطا احمر لا يجوز لأي احد تجاوزه من جهة، وتوفير مقومات الممارسة الديمقراطية الأخرى وذلك بالتسريع بسن قانون انتخابات عصري وديمقراطي واتخاذ ما يلزم لتوفير كافة الشروط لعقد الانتخابات ليس فقط الرئاسية والتشريعية، بل والانتخابات البلدية والقروية وبما في ذلك على مستوى منظمات العمل الأهلي والنقابي والمهني.
فلا خيار أمام الشعب الفلسطيني إلا خيار الحوار، ولا مخرج إلا بالوحدة على أسس ديمقراطية تعزز التعددية وتغنيها وتنميها.