برز على سطح الموج المتلاطم في بحرنا الهائج تصريحات غريبة ومثيرة لرئيس الأركان الإسرائيلي تحمل معاني الإدانة لحكومته وتطرفها وتحمل بذور الانقسام.. وهو الصهيوني المتطرف لكنه يبدو أنه قد فاض به الكيل.
وقبل أيام انطلقت مسيرات من عشرات الألوف في تل أبيب والقدس تطالب بإسقاط الحكومة الإسرائيلية وإزالة الاستيطان وإنهاء الاحتلال طريقاً للسلام.. وقبل ذلك انطلقت شرارة من عمان عن اتفاق جنيف بين جماعة من الإسرائيليين الذين يؤمنون بأن السلام وقيام دولة فلسطينية على حدود 67 وحق اللاجئين في العودة هو الضمان الحقيقي لبقاء إسرائيل، مع جماعة فلسطينية تؤمن بأن السلام هو أيضاً ضمان الحقوق والسيادة والمستقبل.
وقد درست ما أتيح لي من وثائق الاتفاق وأجد فيه صيغة معقولة ومقبولة لمشروع سلام..ومع تأييدي لهذا الاتفاق الذي سيعلن رسمياً، فإني شعرت وأنا أقرأه بالحزن لأن علينا أن نعترف بالظلم الذي وقع علينا في عام 1948 بقيام دولة إسرائيل على مساحة تجاوزت فيها خطوط قرار التقسيم لتأكل 78% من مساحة فلسطين.
وكنت أحب أن أوجه سؤالاً إلى مهندسي الاتفاقية وهو أنه، لماذا لم يشيروا إلى قرار 191 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية على مساحة 44% من فلسطين التارخية؟.. وأنه إذا كان العدل هو طريق السلام الحقيقي فلماذا لا يكون الفيصل بيننا هو قرار التقسيم ذاك؟.
لكني أعرف أن سؤالي هذا لن يكون له جواب سوى أن ذلك مستحيل بحكم الواقع الذي فرضته معادلة القوة.. تلك المعادلة التي رسمت تاريخ البشرية وهي المعادلة التي فهمها تماماً ذاك الطبيب الذي أصبح رئيساً لماليزيا، واستطاع "المحاضر" وهذا هو اسمه، أن ينقل شعبه ودولته من غياهب التخلف إلى مصاف الحضارة والتقدم.
ولأول وهلة فكرت في أنه يجب دعوة ذاك "المحاضر" لتدريس مادة إدارة الدولة في كل الدول العربية ليكون تلاميذه هم رؤساءها ووزراءها ورجال السياسة فيها، عله يستطيع الاقتراب بهم من بعض الحقيقة وبعض المعرفة التي غابت عنهم ولم يفكروا في سنوات حكمهم – التي لا تنتهي إلا بالموت – سوى في مراكزهم ومصادر قوتهم بالسيطرة والبطش والهيمنة.
لقد كان ما قاله أخيراً ذلك "المحاضر" وأثار حوله الزوابع في أواخر أيام حكمه هو أن التقدم والأخذ بأساليب الحضارة هي مفتاح القوة وتغيير المعادلة وضرب مثلاً باليهود الذين عانوا المذابح والمذلة والضعف قروناً فإذا هم اليوم يأخذون بنصيب وافر من القوة بسبب قدرتهم على التنظيم والإدارة وتطوير قدراتهم بالانفتاح على العلم والحضارة حتى أصبحوا اليوم قوة تحكم العالم عن طريق غيرهم.
فأين نحن من تلك الحال التي نمسك فيها بمقاليد القوة والتقدم والنظام والعلم والحضارة؟..أين نحن من كل ذلك والدول العربية مازالت تعيش في أعماق التخلف والجهل وتحكمها زمرة من الزعماء بعضهم لا يجد ما يفتخر به سوى الظهور بملابس غريبة ذات ألوان فاقعة، ويدفعون آلاف الملايين من قوت وخيرات شعبه ثمناً لجرائم ارتكبها ضد الإنسانية؟.
وأين نحن في فلسطين من معادلة القوة وكل ما يهم وزراءنا ونوابنا هو أين يكون الواحد منهم في الوزارة القادمة.. وأين ستكون جهة الولاء. لم يكن اليهود أبداً شعباً أكثر منا تقدماً ولا علماً، فمعظم اليهود جاءوا من الشرق من دول عربية وإسلامية، لكن الفرق هو أن هؤلاء اليهود قد وجدوا الحركة الصهيونية تقودهم وتخطط لهم وترسم لهم المستقبل حتى قامت إسرائيل في عام 1948 التي قيامها مفاجأة كبرى لليهود ذاتهم وهم يعرفون ضعفهم وقلة إمكاناتهم وهم الذين فوجئوا بل وذهلوا مرة أخرى حين انتصرت هذه الدولة الصغيرة والناشئة على ثلاث دول عربية في حرب 67.
ذلك هو الفرق بيننا وبينهم فالشعوب كلها مستعدة للتقدم والحضارة لو وجدت من يضع المسار والنظام ويوفر المثل الصحيح، والشعوب أيضاً مستعدة للفوضى والخراب والجهل لو تُركت نهباً للمشاعر والعواطف والمؤامرات والإشاعات والتكالب على الفتات والنكات.
وها نحن اليوم نشهد قيام الوزارة الثالثة في أقل من ثلاثة أشهر.. وكأننا أصبحنا أكبر حجماً من الصين، وها هي اللجنة المركزية لحركة فتح تظهر فجأة بعد أن أزالت طبقات غبار الزمن عن نفسها وتمارس دوراً ديمقراطياً ويجعلها اليوم وكأنها الحاكم الفعلي في شؤون حياتنا، ولكننا نسأل أين كانت هذه اللجنة المركزية إذا كانت بهذه القوة في تقرير من سيشغل منصب رئيس الوزراء أو رئيس المجلس التشريعي أو عضوية الوزارة؟، أين كانت حين كان الضباب يلف حياتنا ولا نعرف من خلاله طريقاً؟، وأين كانت حين كان يتم توزيع أراضي الدولة؟، وأين كانت حين كانت هيئة البترول والاحتكارات والشركات التي أنشأها قيادات وزعماء؟.. أين كانت اللجنة المركزية، إذا كانت بهذه القوة، حين كان ينتهك القانون وتنتهك حقوق الإنسان ومبدأ الفصل بين السلطات؟.. وأين دورها في وضع الإصبع على موضع الألم ووضع المبضع على أكياس الصديد الذي نخر جسم السلطة فلم تعد بعده سوى قطعة قماش مهترتة بالثقوب والأوساخ.