كعادة المستعمرين الأوائل الذين ذاقت البشرية ويلات" تحضيرهم" ونقلهم من "التخلف" الى ربوع الحضارة الغربية الحديثة وقيمها العصرية. فإن الرئيس بوش استهل خطابه التبشيري بقيم الديمقراطية والموجه نحو بلدان الشرق الأوسط، بلكنة أمريكية خالصة تتسم بالعجرفة والعنجهية الاستعمارية التي وسمت صفات اليانكي الأمريكي الأول الذي أباد حضارة الشعب الهندي السكان الأصليين في أمريكا واحل حضارة القوة " والكابوي" بديلا عنها.

ومما لاشك فيه إن الرئيس الأمريكي المأزوم من مأزقه المتنامي إزاء تصاعد المقاومة الوطنية في العراق والتي أصبحت أكثر تنظيما وعنفا واتساعا في مواجهة الاحتلال الأمريكي والبريطاني، وعجزه عن إثبات الأكاذيب والادعاءات الباطلة التي استخدمها كذرائع لخوض الحرب على العراق واحتلاله، أمام هذا المأزق المتصاعد هناك والمنعكس سلبا على مناخات المعركة الانتخابية داخل الولايات المتحدة الأمريكية ومحاولة خصومه من الديمقراطيين استغلال وتوظيف هذه الأزمات في سياق هجومهم على الإدارة الجمهورية تارة باتهامها بالكذب والتزوير بشأن أسلحة الدمار الشامل، وأخرى بإخفاء الحقائق، وأخيرا بالوعود بان العراق سيكون مدخلا لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة وفق النموذج الأمريكي.

إن تداعيات الفشل الأولي هناك، إذا ما أضيفت على عدم حسم الموقف نهائيا بأفغانستان والقضاء على حركتي طالبان والقاعدة، وتصاعد الخلافات الصراعات المذهبية والقبلية مجددا يضع إدارة الرئيس بوش أمام استحقاق تقديم كشف الحساب عن مغامراتها التي كان إحدى النتائج المباشرة عنها ازدياد خطر الإرهاب والتطرف بدلا من ضربه واستئصال جذوره، حيث إن الموقف والسلوك الأمريكي الذي وضع الدين الإسلامي والمسلمين كهدف لهذه الحملة قد استفز أطراف عديدة وجرها الى ساحة المواجهة معه، كما انه ضرب مصداقية الولايات المتحدة المشكوك بها أصلا، ووسع شقة الخلاف مع دول الاتحاد الأوروبي الأساسية إزاء العديد من القضايا الدولية وفي مقدمتها الحرب على العراق والوضع في الشرق الأوسط.

في سياق هذا المفهوم من الممكن وضع خطاب الرئيس بوش حول دعوته التبشيرية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط والذي يمكن وصفه بإنه يحمل أكثر من رسالة وموجهة في أكثر من اتجاه.

الرسالة الأولى وهي موجهة للمجتمع والشعب الأمريكي، والهدف منها استبدال شعار محاربة الإرهاب وتدمير أسلحة الدمار الشامل الغير موجودة، بشعار نشر قيم الحرية والديمقراطية وذلك لتبرير استمرار الحرب والعدوان على العراق التي لا تكلف الشعب الأمريكي دماء أبنائه فحسب، وإنما جزء كبيرا من ضرائبه التي تصرف على تمويل هذا المجهود والتي تعود في غالبيتها الى جيوب الشركات العملاقة المحسوبة عل أعمدة هذه الإدارة من جهة والممولة لحملات الحزب الجمهوري الانتخابية من جهة أخرى.

الرسالة الثانية أعطاء مضمون ومبرر جديد ومختلف لمواصلة حملته العدوانية على المنطقة والمستهدفة كلا من سوريا وإيران بخلاف المبررات السابقة التي استخدمت للهجوم على العراق إذا قد لا تبدو الذرائع السابقة مقنعة لتبرير تشديد الضغوط على كلا البلدين وخاصة إن إغراء تكرار ما حدث في العراق وأفغانستان عند المحافظين الجدد المسيطرين على البنتاغون ومفاصل مهمة في البيت الأبيض واردة التطبيق.

الرسالة الثالثة وهي موجهة للدول العربية المحافظة والتي كانت تعتبر حليف تقليدي للولايات المتحدة الأمريكية ودعوتها لدمقرطة أوضاعها الداخلية وفق الصيغ الملائمة التي تراها مناسبة لها ، وهذه الدعوة لا يمكن فهمها على أنها تخلي أمريكي عن نهجها السابق بدعم القوى التقليدية في العالم والمنطقة العربية ، وإنما في سياق الضغط على هذه الدول التي تريد أن تنأى بنفسها قليلا عن السياسة الأمريكية التي باتت تحرجها اعتبار الدين الإسلامي والمسلمين عموما في دائرة الإرهاب ، وكذلك انحيازها الأعمى لإسرائيل في ظل معايير مزدوجة تحرج هذه الأنظمة أمام شعوبها ، وتضعفها أمام قوى المعارضة المتنامية والتي بدأت تأخذ أشكالا عنيفة.

أما الرسالة الرابعة والموجهة للفلسطينيين والتي ربطت موضوع قيام الدولة الفلسطينية بشرطين، الأول محاربة الإرهاب، والثاني التخلص من القيادة القديمة او ما يسميها الحرس القديم الداعمة للإرهاب، فإن هذه الدعوة التي تحمل كل معاني المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين إزاء الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يذكر واعتبار إسرائيل واحة الديمقراطية في المنطقة وربما في العالم اجمع، إن هذه الديمقراطية العوراء التي ينادي بها الرئيس بوش والتي لا ترى بالاحتلال مناقض لأبسط القيم الإنسانية والمعيق الأساس للديمقراطية والتنمية والتطور.

كما إن دعوة الرئيس بوش لتغيير القيادة الفلسطينية ألا تحتاج لفسح المجال أمام الشعب الفلسطيني لممارسة حقه الإنساني اولا بانسحاب الاحتلال من مدنه وقراه ليقرر بعد ذلك وفق أي وجه يريد أن يغير قيادته واستنادا لأي معايير ديمقراطية وعل أساس الممارسة الديمقراطية التي تستند لصناديق الاقتراع، أم أن الرئيس بوش يريد أن يمارس الفلسطينيون الديمقراطية الأمريكية بإشعال الحروب الأهلية فيما بينهم، والانصراف عن مواجهة الاحتلال الى المواجهة الداخلية، إن الإدارة الأمريكية المطعون بصدقيتها سلفا مع الشعب الفلسطيني والتي ترفض التعامل مع الرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني، وتدعم بكل وسائل الدعم العسكرية والمادية والدبلوماسية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي والشعب الفلسطيني، والتي عارضت إجراء الانتخابات التي أعلن عنها مطلع العام الحالي، والتي تضع قيودا مسبقة على ترشيح الرئيس عرفات، او قوى سياسية معينة هي في عرفها واعتبارها إرهابية، ألا تشكل هذه الممارسات بمجملها الديمقراطية العوراء التي ترى في الديمقراطية الإسرائيلية ذات الطابع العنصري والمقتصرة على اليهود فقط هي الديمقراطية الحقيقية، في حين تمنع الشعب الفلسطيني من ممارسة خياراته الديمقراطية بحرية واستقلالية، وعلاوة على ذلك تطالبه بتغيير قيادته المنتخبة شرعيا بوسائل غير ديمقراطية.

إن الرئيس بوش وكتبة خطاباته على الأرجح لا تعوزهم الفطنة ولا المعرفة لإدراك هذه الجوانب، غير أن عقلية "اليانكي الأمريكي والمبشر بنشر قيم الديمقراطية" على الطريقة الاستعمارية البائدة هي التي تحركهم من جهة، وتعميهم عن رؤية حقائق الواقع والتاريخ، لان ليس هناك نموذج واحد للديمقراطية وان الديمقراطية هي نتاج تطور المجتمعات نفسها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ولن تفرض "الديمقراطية" على الشعوب بصواريخ الكروز والتوماهوك والدبابات والطائرات، وإنما ببناء جسور الثقة والتفاهم والتعاون على قاعدة التكافؤ والاحترام وليس الاستعمار.