لم يلتق اربعة رؤوساء مخابرات سابقين في عدد واحد من صحيفة "يديعوت أحرونوت" صدفة. ولكنه ليس حدثا جللا، فمواقف هؤلاء كأفراد معروفة، رغم أنها فاجأت من لا يعلم. وليس من المفترض ان يعرف الناس كل تفصيل في اسرائيل، بما في ذلك الآراء الشخصية لرؤوساء المخابرات العامة السابقين. ولكن تجميعهم والحدة في الطرح أثارا زوبعة متوقعة. فهنالك دلائل على تبلور معارضة أكثر فاعلية وأعلى صوتاً ضد شارون، وتجميع رؤساء شاباك سابقين هو بمثابة "مدخل شرعي" لشن حملة ضد شارون و"عواقب سياسته الكارثية لاسرائيل" من زاوية النظر الأمنية، فالأمن هو رديف الشرعية.

ولا باس من التذكير بالطبع أن رؤساء الشاباك (مختصر خدمة الأمن العام) الذين انبروا للتحذير من العواقب الأمنية التي تنطوي عليها السياسات الحالية، هم رؤساء مخابرات سابقون، قاموا بكل ما في وسعهم في حينه لتنفيذ سياسات الحكومات التي عملوا في خدمتها، وانهم يتكلمون كمتقاعدين. والرئيس الحالي لجهاز المخابرات الاسرائيلي يعارضهم علناً ويتصدى لهم، ولكننا لا نعرف ماذا سيقول حينما ينهي خدمته هو الآخر.

تنحدر غالبية قيادات الاجهزة الامنية والجيش في اسرائيل من بيئة التيارات العمالية القديمة الاجتماعية والسياسة. وقد كانت تحكم قبضتها على مؤسسات المجتمع والدولة في الدولة العبرية، حيث ساد اتفاق بينها وبين النخب السياسية على الأمور التالية: 1) أولوية الأمن على كافة اوجه النشاط الاجتماعي 2) تعزيز التفوق العسكري مقابل العرب، واستخدام القوة الرادعة، والحرب الاستباقية اذا لزم، طالما لم يقبل العرب بالتسوية بالشروط الاسرائيلية، 3) ضرورة التوصل الى تسوية مع العرب بالشروط الاسرائيلية، ومنذ نهاية الثمانينات- مع الشعب الفلسطيني أيضاً.

هل غيّر رؤساء الاجهزة الأمنية هذا التوجه؟ الجواب هو: لا قطعاً. بل هم يعتقدون ان سياسة شارون تسير بإتجاه معاكس له، وأنها لا تمكن العرب حتى من رفع أيديهم وقبول التسوية. انهم يعتقدون ان سياسة شارون ترمي الى القمع وكسر ارادة الشعب الفلسطيني دون طرح افق سياسي. وقد تأكدوا ان شارون ماضٍ في هذا الاتجاه، ولم يكثروا من التصريحات قبل ان تأكدوا ان شارون لا ينوي التوصل الى حل سياسي.

مواقف هؤلاء ليست جديدة. الجديد انهم يعتقدون جازمين ان هذه الحكومة لا ترغب بتسوية سياسية تخدم الوصول اليها سياسات القوة المتبعة، وكانوا قد زينوا لأنفسهم خلاف ذلك.

واذا اضفنا الى ذلك ان الاجهزة الأمنية عموما اكثر براغماتية من حكوماتها الايديولجية، ان كان ذلك في اسارئيل او كي. حي. بي. اندروبوف او مخابرات جنوب افريقيا العنصرية التي تيقنت من عدم جدوى القوة وحدها ودفعت ايضا باتجاه الحوار، نجد انه لا جدوى من البحث عن تحول هنا. التحول الأعمق يجري داخل المؤسسة الأمنية الاسرائيلية، ويتلخص بأن نفوذ اليمين الاستيطاني قد ازداد بشكل ملحوظ ويكاد يهيمن في اوساط الضباط الكبار من قيادات الصف الثاني، أي المتوجهين للقيادة في المستقبل. والمسألة هنا لا تتوقف على تسرب أفراد من أمثال موفاز الى القيادة، بل وصول فئات واسعة تعكس تحول المجتمع الاسرائيلي منذ نهاية السبعينات، وحلول قوى طليعية جديدة مع أفول طليعية الكيبوتس، ألا وهي المستوطنين. ولذلك فإن السياسة وحدها سوف تحسم اذا كان هذا الصوت الأمني، هو الصوت الأخير قبل فوات الأوان، أي قبل ان يحكم اليمين الاستيطاني والديني سيطرته على القيادات الأمنية لينسجم مع فئة متسعة بإستمرار داخل النخبة السياسية في الليكود تتحدث بغطرسة وغرور من ليس بحاجة لتسوية مع العرب والفلسطينيين. وهي تستمد قسطا من غطرستها من إصرار أمريكا ان الوضع القائم في العالم العربي غير ثابت، وليس واضحاً من سيبقى ومن سيذهب.

ولكن زحف هذه القوى أقل بكثير من اليقين. وما يبرز في هذه الأثناء هو قرار فئات واسعة في المجتمع والسياسة بشن حملة على شارون. هذا حسن، ولكن على الموقف العربي ان يتمسك بالسلام العادل، وعليه الا يتعنت ويصاب بالغرور وكأن اسرائيل مقبلة على انهيار، ولا أن يعوم على شبر ماء مكافئا كل تصريح لرئيس جهاز امني سابقي بتنازلات سياسية لا تقدم ولا تؤخر في النقاش الدائر في اسرائيل.