أثار تصريح رئيس الوزراء الفلسطيني احمد قريع زوبعة كبيرة من ردود الأفعال السياسية والانتقادات سواء على المستوى الفلسطيني أم على المستوى الدولي والإسرائيلي، ولم تهدئ لغاية الآن ردود الأفعال تلك رغم البيان الصادر عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والقوى السياسية في عشية اليوم التالي لتصريحه الشهير، علاوة عن انه عاد وأكد مجددا بنفسه على التزام الفلسطينيين بخطة خارطة الطريق وبخيار دولتين لشعبين وهو يقف بجانب جدار الفصل العنصري في مدينة قلقيلية.

ورغم أن التصريح قد أعطى مفاعليه إذا كان المقصود منه تحريك المياه الراكدة في مسيرة العملية السياسية وخصوصا لدى الراعي الأمريكي، فإن رد فعل وزير الخارجية الأمريكية على التصريح وبذات اليوم يعكس اولا تحقيق الهدف المرجو بالتحريك إذا كان كذلك، وثانيا مدى اهتمام الإدارة الأمريكية ليس بالوصول لحلول بل بإدارة الصراع والحفاظ عليه من أن يتجاوز الحدود المرسومة له وان لا يخرج عن نطاق السيطرة، مما يعني أنها أي الولايات المتحدة ليست راغبة في تعقيد الوضع في المنطقة خصوصا وأنها تخوض أكثر من معركة وعلى أكثر من صعيد، بدء من محاولة تثبيت الوضع المتأزم في العراق، الى حمل الدول الحليفة لها على إجراء إصلاحات داخلية فيها تمس طبيعة هذه الأنظمة وبناها السياسية والاجتماعية والتي شكلت طيلة السنوات السابقة هذه البنى ما يمكن أن يوصف بالقاعدة الاجتماعية والإيديولوجية التي تبرر لهذه الأنظمة مواصلة حكمها. ومن هنا فإن رد الفعل الأمريكي السريع لا يمكن أن يفهم سوى في إطار تصويب الموقف والتذكير بان هناك خطة أمريكية مازالت موجودة وينبغي الالتزام بها رغم العثرات التي تواجهها في التطبيق بصرف النظر عمن يتحمل مسؤولية تعثرها.

أما على الصعيد الإسرائيلي فإن ردود الفعل الغاضبة والمحرضة على تصريح رئيس الوزراء الفلسطيني وعلى حكومته واتهامها بالتقصير وإلغاء الاتصال معها لتحديد موعد للقاء رئيسي الوزراء، وتسريب أنباء رسمية من مكتب شارون بان الحكومة الفلسطينية تواجه مأزقا داخليا وان أيامها باتت معدودة في الحكم.

إن كل ردود الأفعال هذه إنما يمكن فهمها ارتباطا بحالة الضيق من هذا التلويح الرسمي الفلسطيني بالعودة الفلسطينية لهذا الخيار، ولأنه يستفز ليس القوى السياسية الحاكمة والمعروفة بموقفها الذي يدعوا الى الفصل ارتباطا بما يمثله هذا الخطر الذي يسمونه القنبلة الديمغرافية والذي لا يمر مؤتمر او ندوة سياسية او فكرية في إسرائيل إلا وتكون هذه القضية حاضرة فيه. لقد أضاء هذا التصريح أكثر من أشارة حمراء لدى دوائر صنع القرار السياسي في إسرائيل سواء في الائتلاف الحاكم أم في صفوف قوى اليسار التي تؤيد قيام الدولة الفلسطينية لنفس الاعتبار وهو التخلص من الخطر الديموغرافي الفلسطيني الذي يهدد هوية دولة إسرائيل. وهذا الخطر هو نقطة الإجماع الوطني الصهيوني التي تلتقي حولها كافة القوى الصهيونية، ويأتي ارتباطا بها رفض هذه القوى مجتمعة لحق العودة باعتباره التنفيذ العملي لإحداث هذا الخلل الديموغرافي الذي لا يعني من وجهة نظرهم سوى تدمير الدولة اليهودية.

ومادمنا في غمار ردود الأفعال على التصريح وما أحدثه من موجه من التفاعل السياسي لدى أوساط فلسطينية عديدة، مابين مؤيد ورافض، ومابين من اعتبره عودة الى الأصول وذهاب البعض الاخر في تصويره تغيرا في الاستراتيجية الفلسطينية اتجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفشل خيار التسوية السياسية، او من اعتبره زلة لسان في غير محلها ووقتها.

فإن حرارة النقاش السياسي ينبغي أن لا تغطي حقيقة الدوافع من وراء هذا التصريح وعدم تحميله أكثر مما يحتمل من دلالات سياسية، وإذا ما اعتبرنا التصريح انه ردة فعل غاضبة إزاء إدارة الظهر من قبل حكومة شارون لكل المبادرات الايجابية التي قامت وتقوم بها الحكومة الفلسطينية منذ تسلمها لمهامها، ومن محاولاتها الجادة لوقف العمليات داخل الخط الأخضر والوصول وعبر الحوار الوطني الفلسطيني- الفلسطيني الى هدنة تفتح الآفاق أمام استئناف المفاوضات، وهو ما نجحت فيه بشكل غير معلن من خلال توقف العمليات فعليا منذ عدة اشهر، في حين أن شارون مازال يواصل حربه العدوانية المعلنة من اغتيال وقتل واجتياح وتدمير بيوت وبنية تحتية اقتصادية ومواصلة الحصار والإغلاق على الشعب الفلسطيني والأسوء من كل ذلك توسيع الاستيطان رغم حديثه عن فكفكة المستوطنات العشوائية، والمضي بإقامة جدار الفصل العنصري في سباق محموم مع الزمن غير عابىء بالتنديد والاستنكار الدولي والعربي عليه.

أن حالة الضيق هذه من جراء سياسة شارون التي وجدت التعبير عنها في تصريح رئيس الوزراء الفلسطيني، والذي حمل رسالة أراد إيصالها بان الفلسطينيين يمكن أن يذهبوا للطرف الآخر من الحل. إن هذا التهديد او التلويح به، حتى ولو كان على سبيل التكتيك، من قبيل وضع شارون مابين خيارات اقلها سوء بالنسبة له وللحركة الصهيونية هو الدولة الفلسطينية المستقلة وبدون جدران الفصل العنصري، فإن هذا التهديد سواء كان جادا باللجوء لهذا الخيار او العودة إليه لا يؤخذ بهذه الخفة والتسرع وإنما بحاجة لمراجعة جدية ودقيقة من قبل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية صاحبة القول الفصل في هذا الموضوع وخاصة إن خيار الدولة الفلسطينية المستقلة القائم على خيار دولتين لشعبين تطلب وقتا طويلا لإقراره في المؤسسات الشرعية الفلسطينية وتحول في نهاية الأمر الى برنامج للإجماع الوطني براياته الثلاث العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. وبني على هذا البرنامج جملة من القرارات الدولية في الأمم المتحدة وكذلك من قرارات القمم العربية وآخرها المبادرة العربية في قمة بيروت.

ومما لاشك فيه ورئيس الوزراء الفلسطيني يدرك هذه المعادلة فإنه وان عبر بهذا الضيق من الموقف الإسرائيلي، فإنه أي هذا التهديد وان كانت الأوساط السياسية الرسمية الإسرائيلية تدرك أبعاده المباشرة، فإنها ذهبت لاستغلاله والتحريض على السلطة الوطنية الفلسطينية واتهام القيادة الفلسطينية بأنها تريد تدمير دولة إسرائيل ولا تريد صنع السلام معها.

وبصرف النظر عن مدى مصداقية الدعاية الإسرائيلية في المجتمع الدولي وخصوصا في أوروبا، فإن توفير فرصة لشارون لاستغلال الموقف ومحاولة تجبيره لمصلحته في وقت تواجه السياسية الإسرائيلية والأمريكية موقفا أوروبيا متململا ورافضا لدور الممول فقط ومطالبا بحل سياسي لا يرتبط بالاستحقاقات الانتخابية الأمريكية. إن هكذا تحرك أوروبي وان كان بدء يخيف إسرائيل ويقلقها على المستوى الرسمي مع تصاعد حدة النقد الدولي لمواصلتها بناء جدار الفصل العنصري، فإن أي فرصة تعطي لشارون ولو بخطأ تكتيكي محدود لا يساعد على تراكم قوى ضاغطة على إسرائيل، بل يساعد على التملص من ضغوط من الممكن تعطي مفاعيل ايجابية.

إن طي صفحة هذا الموضوع بالسرعة الممكنة هو أمر حيوي وضروري من اجل استعادة زمام المبادرة بهجوم سياسي ودبلوماسي فلسطيني يركز عل حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة وفقا لقرارات الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي بما فيها إعلان تجسيد السيادة لهذه الدولة من جانب واحد ردا على خطة الفصل الشارونية أحادية الجانب، وفي هذا السياق فإن بلورة مبادرة فلسطينية تدعو لمؤتمر دولي للسلام في المنطقة، وفقا واستنادا لقرارات الشرعية الدولية والقمم العربية وإجراء تحرك سياسي ودبلوماسي نشط وفعال مع الأشقاء العرب قبل القمة العربية في آذار القادم أمر في غاية الأهمية للخروج من حالة الشلل السياسي والتجاذب مابين المبادرات السياسية (غير الرسمية) التي أربكت الصديق قبل العدو.