في ذكرى يوم الأرض الذي لم يلق ما يليق به من اهتمام عربي ودوليّ، قامت مراسلة فضائية عربية بمقابلة سيدة فلسطينية تشبه ألوان ثوبها الجميل ألوان الأرض التي تعمل بها، وتشبه صلابة إيمانها بحقها صلابة الأرض التي تزرع وتسقي وتعشق. تحدثت أم وليد بعفوية وصدق قلّما نشهدهما اليوم في الإعلام المدجج بالتعابير الفضفاضة التي لا وزن لها على أرض الواقع. قالت للمراسلة: يا بنتي ها هم يأخذون أرضي ومن يأخذ أرضي يأخذ روحي، لديّ زيتونات وزعتر، أطعم الأولاد زيتونا وزعترا. وها هم الجنود اليوم يأخذون زيتوناتي ويقتلعونها ليبنوا ذلك الجدار، كيف أعيش بدون أرضي، كيف نعيش بدون أرضنا وزيتوننا؟ كانت دموع الشباب والرجال، الذين يقفون خلف أم وليد، تغسل وجناتهم وتعابير الألم المرير تعتصر تقاسيم وجوههم الحزينة. وبعد ثوان رأينا أربعة جنود إسرائيليين يمسكون بيدي أم وليد ورجليها لإزاحتها عن الأرض التي يغتصبون، والتي تمثل جوهر وكنه حياتها وحياة أسرتها وشعبها. وفي القدس أيضاً انهالت الشرطة الإسرائيلية ضرباً على أولاد أربع عائلات حاولوا منع المستوطنين من دخول بيوتهم واحتلالها، ولكن مصير العائلات الأربع تلك كان في عراء الشارع وفقره وإذلاله.
في الوقت ذاته لم تحتل أي من هذه ولا غيرها من الحوادث عنواناً رئيسيا في أي جريدة أو فضائية عربية، بل كانت لقطات عابرة ليبقى التركيز الإعلامي الأهم على مكان وزمان انعقاد القمة العربية، التي عكست ملابسات الفشل بعقدها هول الكارثة التي يعاني منها النظام السياسي العربي على المستويين القومي والقطري، وكذلك على «خطة الفصل» الشارونية من معها ومن ضدّها، وعلى وفد أميركي قرر زيارة السلطة الفلسطينية، فاعتبر ذلك إنجازاً مهما يغطي أو يكاد كل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل يومياً من اغتيال واغتصاب للأرض وتعذيب للأسرى وهدم للبيوت وغيرها العديد من جرائم الحرب الوحشية. علماً بأن الوفد انتهى بالطلب إلى القيادة الفلسطينية بالقضاء على الإرهاب! أما التركيز الدولي طبعاً، فقد كان على حملات المداهمة لبيوت مسلمين في لندن هم مواطنون بريطانيون، ولا غرابة على الإطلاق أن تثار كل هذه الضجة حول المسلمين في أوروبا والمداهمات لمنازلهم، لاكتشاف أي صلات لأيّ منهم مع منفذي عملية مدريد، إذ أن إثارة هذه الزوبعة العالمية حول مسلمين هنا وآخرين هناك، مع الإيحاء بأن الإرهابيين كلهم مسلمون، وأنهم مسؤولون عمّا يعاني منه الغرب من إرهاب، تساهم عن قصد أو غير قصد في تبرير الجرائم التي ترتكبها زمرة شارون بحق الشعب الفلسطيني الأعزل من اغتصاب للأرض والمنازل وقتل متعمد للأطفال والشيوخ والنساء. زمرة شارون تحاول إيهام العالم بأنّ الكيان الصهيوني مثل الدول الغربية تماماً يعاني من الإرهاب وانعدام الأمن، وأنه مضطر لاتخاذ إجراءات تقيه من أعمال إرهابية تهدد أمنه.
إن الخطوة الأولى لاختراق هذه الأكذوبة التي تكلّف العرب الكثير والتي تهدف إلى تمرير مخططات على أرض الواقع تغتصب الأرض والحقوق، تتمثل في ترتيب البيت العربي، الذي أصبح في واقع الحال مجموعة خيام مبعثرة في صحراء التشتت المقفرة، والبدء بعملية تنسيق وتنظيم للعلاقات البينية العربية ترقى إلى مستوى القضايا المصيرية للأمة، وذلك قبل التوجه إلى العالم برسالة موحدة تقول إن من يقتل المدنيين الأبرياء في مدريد أو الدار البيضاء او الرياض أو كربلاء لا علاقة له بالإسلام أو العروبة فالإسلام حرّم قتل النفس البريئة.
والخطوة الثانية تتمثل في الفصل الكامل والنهائي بين ما يجري في الأراضي المحتلة من مقاومة لممارسات الاحتلال الوحشية، وما يجري في عواصم العالم، بما في ذلك عواصم عربية ومسلمة، وان من خطّط لها هو عدوّ للمسلمين وللحقوق العربية في أرضهم وديارهم ومياههم.
والخطوة الثالثة هي نقل الواقع السياسي للصراع في المنطقة العربية، وإظهاره على حقيقته بأنه يتمثل باستيطان عنصري يقضم أرض شعبٍ آمن. فالصراع ليس صراع أديان أو ثقافات، لأن الشرق الأوسط هو مهد الديانات السماوية، وكيف يمكن أن يكون الفلسطينيون مسلمين فقط وبيت لحم هي مهد المسيح عليه الصلاة والسلام؟. لقد عاش أتباع الديانات السماوية الثلاث في انسجام وتآخٍ، ودافع المسيحيون العرب عن القدس ضد الحملات الصليبية المتتالية عليها، وامتزجت الثقافات الدينية في هذه المنطقة لتشكل إرثاً حضارياً غنياً يفخر جميع أبنائه بالانتماء إليه. ولكنّ جذر المشكلة الذي يعيق السلام والأمن والاستقرار، هو سياسات الإرهاب الرسمية المتسمة بالعنصرية، التي تتبناها إسرائيل ضمن توجه يستخدم معاداة السامية حيناً لإخفاء جرائمها، ويدعي التناقضات بين الأديان والثقافات حيناً آخر، ويهوّل من الفروقات بين الغرب والمسلمين تارة أخرى، ليغذي الكراهية بينهما ويبرّر كل الجرائم التي ترتكبها.
وفي هذا السياق يأتي كل تصريح عن العمليات الفدائية بمعزل عن السياق غير الانساني، والظروف القاتلة التي يفرضها الاحتلال على الشعب الفلسطيني، مضللاً، وهو بذلك يساهم في إعطاء مصداقية للدعاية الصهيونية، التي تقرن المقاومة بالإرهاب، ولا بدّ في مناقشة كل أمر من العودة إلى تفاصيل الحياة اليومية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني الأعزل، ولا بدّ من نقل صورة الأطفال مثل خالد الويل، ومحمد الدرة وغيرهما من ضحايا الاغتيال الإسرائيلي إلى العالم، وصورة أم وليد وهي تقاوم جنوداً يزيحونها عن أرض أهلها وأجدادها ليبنوا جدار الفصل العنصري، ولا بدّ من إعادة صور وقصص هذه الجرائم على مسامع العالم وناظريه إلى أن يقتنع العالم بالوقوف وقفة عادلة مع أصحاب الحق بعيداً عن تهويل التسميات، فالعرب كانوا السباقين دائماً لنشر الحضارة والتثاقف بين الشعوب.
لا بدّ من أن تتقدم تفاصيل المعاناة العربية التي تعبّر عن جوهر الصراع، الذي هو مقاومة سكان أصليين لاحتلال استيطاني عنصري، لتصبح العناوين الأهم والأكبر على صفحات جرائدنا وعلى شاشاتنا الفضائية، ولا بدّ أن يستمع المسؤولون العرب الذين ابتعدوا كثيراً عن نبض الشارع العربي إلى أمّ وليد وأمثالها ممن امتزجوا بأرضهم، ولبسوا ألوانها، وعشقوا تربتها وهواءها وسماءها، لتصبح سياساتهم وقراراتهم وتصريحاتهم انعكاساً لكل ما يقلق ويزعج ويؤلم المواطن العربي، وليس انعكاساً لرغبات العواصم الأجنبية. آنذاك فقط، سوف نشعر جميعاً باحترام العالم لنا، وحينذاك فقط، سيتوقف العالم عن إعطاء الإيحاء بربط العرب والمسلمين بالإرهاب، وستصدر الإشارات إلى الإعلام الغربي بألا يستخدم عبارة «إسلام إرهابي»، وألا يعتبر كل انتقاد لجرائم شارون بأنه معادٍ للسامية. حينذاك فقط، سنكون ساهمنا بتسليط الضوء على حقيقة الاحتلال والاستيطان، وأنه وحده يغذي الإرهاب ويشدّ أزره. - الشرق الأوسط -