أثناء زيارة الرئيس الأميركي السباق رونالد ريغان لموسكو العام 1989، خصص لقاءً للمثقفين والمبدعين والأكاديميين في الاتحاد السوفيتي قبل انهياره بقليل، وإبان ثورة البيروسترويكا التي قادها غورباتشوف . وكان لكلمته المكتوبة بعناية وقع شديد، فقد افتتنهم حديثه عن مزايا العالم الحر خاصة في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية وتطور العلوم والتكنولوجيا . وكان هذا العرض الدعاوي نموذجاً لشكل وأسلوب التغلغل والاختراق الأميركي في أنحاء مختلفة من العالم . حيث اعتمدت الولايات المتحدة على منظومة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والسوق الحرة المدعومة بالقوة العسكرية المستترة إلي حد ما. أما الآن وفي ظل القطب الواحد فقد لاذت منظومة القيم إلى هامش المشهد ،وأصبحت القوة العسكرية في موقع الصدارة . وبلغ الانحياز الأميركي للقوة العسكرية ذروته باعتماد الكونغرس لعقيدة الحرب الاستباقية التي تجيز استخدام القوة العسكرية في أي مكان ومن دون تهديد، والهدف هو السيطرة الأميركية على العالم والتفرد بكل شيء وفرض تبعية عميقة للدولة العظمى الوحيدة، وعدم السماح بتجاوز هذه المعادلة .
وبدأت الولايات المتحدة في ترجمة هذه العقيدة بالسيطرة المباشرة على بعض البلدان من أجل فرض نوع من السيطرة على الشرق الأوسط وعبره تحقق مستوى من السيطرة على العالم .غير أن الولايات المتحدة التي تقود اكبر انقلاب رجعي في مواجهة الحضارة الإنسانية، تصطدم بمنظومة القوانين والمواثيق والقيم الإنسانية التي شكلت ناظماً للعلاقة بين دول وشعوب العالم على مدار اكثر من نصف قرن، فهي لا تستطيع أن تقدم غطرسة القوة وشريعة الغاب بديلاً لهذه المبادئ. لذا، نجدها تلجأ إلى سلاح الكذب الشامل ، والادعاء بأن حربها الوحشية من أجل الهيمنة والتفرد، هي حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي هذا المجال ضربت الولايات المتحدة رقماً قياسياً في قلب الحقائق على مرأى وسمع العالم . فقد ربطت بين القاعدة ونظام صدام حسين، وبين إرهاب بن لادن وأسلحة الدمار الشامل العراقية التي تهدد الأمن الأميركي، واعتبرت احتلال العراق امتداداً للحرب ضد الإرهاب . وعندما أسقط بيد الإدارة الأميركية، ولم تتمكن من تقديم دليل واحد على الادعاءات السابقة، انتقلت إلى أحجية جديدة مفادها أنها ستنزع التهديد الذي يمثله النظام العراقي من أجل حل القضية الفلسطينية وتحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. ولكن ما أن سقط النظام العراقي وأصبح العراق بلداً محتلاً، حتى تصاعد العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني بشكل غير مسبوق . وانتقلت الإدارة الأميركية إلى مبرر جديد للحرب هو، جعل العراق نموذجاً يحتذى للديمقراطية وبالتالي نشر القيم الديمقراطية في الشرق الأوسط .
بعد عام على احتلال العراق سقطت جميع الأقنعة التي حاولت الولايات المتحدة استخدامها لتبرير احتلالها للعراق. فعلى الصعيد الاقتصادي دمرت الحرب الأميركية البنية التحية والفوقية للدولة العراقية وألغت التشريعات والأنظمة والقوانين ومؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش والشرطة . وفصلت معظم موظفي الدولة وقذفتهم إلى الشارع بلا مورد للرزق . وتهيمن على اقتصاد العراق شركتان أميركيتان، هما شركة هالبرتون التي سيطرت على الصناعة النفطية . وشركة بكتل التي سيطرت على مشروع إعادة الاعمار وأعطت أولوية للترميم واعادة البناء للمرافق التي تحتاجها الشركات الأميركية. وأصبحت إعادة اعمار العراق تعادل حق الشركات الأميركية في نهب هذا البلد وسرقة أمواله، دون إغفال توزيع بعض الفتات على شركات البلدان التي ساهمت في الحرب . وفي هذا السياق تحول مؤتمر المانحين لإعادة اعمار العراق إلي مؤتمر لإغراق العراق بالديون بعد أن تحولت كل المنح إلى قروض قصيرة الأمد . لقد كرس الاحتلال الأميركي مقولة "العراق اغنى بلد وأفقر شعب" .
أما الديمقراطية التي جاء بها الاحتلال، فلا تختلف عن ديمقراطية النظام السابق كما يقول عدد كبير من العراقيين. وما اكثر القرائن التي يمكن عرضها بدءاً بإغلاق الصحف المعارضة للاحتلال الأميركي، مروراً باستخدام القوة والترهيب من أجل فرض السيطرة الأميركية، وتصدير القرارات لمجلس الحكم الانتقالي وتعيين الحقائب الوزارية الجديدة وإقالة وزراء وموظفين، أي تعيين سلطة جديدة من دون انتخابات والتذرع بعدم وجود إمكانية لإجراء انتخابات في المدى القصير والمتوسط، خلافاً لرغبة الشعب العراقي ومعظم القوى السياسية في العراق . لقد قدم بول بريمر حاكم العراق الجديد نموذجاً مرعباُ للديمقراطية، كان فصله الأول السماح بنهب وتدمير جميع مراكز الحضارة والثقافة في العراق، أما الفصل الثاني فكان تدمير بنية الدولة العراقية وإغراق البلد في حالة من الفوضى وانعدام الأمن للمواطنين . فقد انتشرت مجموعة من الظواهر المخيفة كظاهرة السرقة، وظاهرة خطف الأطفال والفتيات، وظاهرة الاتجار بالمخدرات . والآن بدأ فصل جديد هو إرهاب الشعب العراقي عبر المجازر المروّعة التي تستهدف الأبرياء والمدنيين في محاولة لتقرير مصيره من طرف واحد .
وماذا كانت النتيجة؟ فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها بشكل كامل في العراق وسائر الدول العربية والإسلامية وأنحاء مختلفة في العالم . وازداد الرفض والعداء الشعبي والمعارضة الرسمية للسياسة الأميركية . وفي ظل هذا الوضع، أصبح مجلس الحكم الانتقالي معزولاً عن الشعب العراقي أكثر من أي وقت مضى ولا يستطيع التحدث باسمه . وكذلك حال كل الأنظمة التي تتبنى السياسة الأميركية وتأتمر بإمرتها. إن تجربة عام من احتلال العراق وتجربة الحرب الإسرائيلية الشرسة ضد الشعب الفلسطيني تؤكدان انه لا يمكن إخضاع الشعوب بالقوة، فالاحتلال العسكري مهما طال أو قصر ومهما استخدم من وسائل وحشية كالقتل الجماعي وتدمير المنازل وتحطيم البنية التحتية، فإنه لا يستطيع فرض الاستسلام والخنوع على شعوب تناضل من أجل حريتها. إن عدم الاستسلام في فلسطين والعراق محطة مهمة يمكن ترسيخها توطئة لفرض التراجع على المحتلين .