ازاء سيل المواد الواردة عن العراق بمعدل ألف كاتب وعلق ومراقب وصحافي للجندي الواحد يفرك المرء عينيه غير مصدق لدى قراءة باحثين ومثقفين في فلك الادارة الاميركية الحالية يحسب فارك العينين أعلاه تصريحاتهم أكثر جدية مما تدفق وعلق في ذهنه من سيل المواد. ومنهم من أصدر الكتاب تلو الآخر حول الديموقراطية في الثمانينات واجتهد في الصناعة الاكاديمية حتى وصل الى منصب مستشار لسلطات الاحتلال في تنفيذ السياسات في العراق. أليست أمنية الأكاديمي في العلوم الاجتماعية أن يطبق ما ينظّر له؟ وقد أتاح افراط الادارة الحالية في مجال الايديولوجيا المجال لكم غير مسبوق من الأكاديميين الناصحين والمستشارين أن يدلوا بدلوهم في انتشال الشرق الاوسط الكبير. وقد انتهت تنظيراتهم عملياً الى جعل حدود الشرق الاوسط معرفة بموجب حدود سيطرة قيادة المنطقة الوسطى للجيش الاميركي. ما هو الشرق الاوسط اذاً؟ انه المنطقة الخاضعة لقيادة المنطقة الوسطى. تعريف عملي وقصير وسريع وسهل على الاستيعاب، ويوفر على الناس التنظيرات حول كونه عربي او غير عربي، وكيف يشمل باكستان ولا يشمل تركيا الخ. ولا تكرهوا أمرا عله خير لكم، انها فرصة ذهبية للتيقن من نسبية وتفاهة موجات الصناعة الاكاديمية التي تحل علينا مثل التقليعات عبر المؤتمرات الاكاديمية والأوراق والأدبيات التي يستعين بها الأكاديميون ليشعروك انك خارج الدنيا وخارج السياق اذا لم تتابعها حال وقوعها مثلما يشعر شخص طبيعي بين معتنقي «الموضة» المهووسين بها المتعصبين لها. ولاري دياموند من جامعة ستانفورد بنصائحه الحالية بعدم التأجيل وضرب حركة الصدر وجيش المهدي بسرعة، لأنه لا يمكن ان تقوم ديموقراطية مع ميليشيات، ولم يفطن دياموند الى ميليشيات الاحزاب المنضوية تحت لواء مجلس الحكم ربما لأنها تعبير عن فيديرالية طائفية مؤملة. انه يشعرك بالندم أنك قرأت اصلاً الكتب التي حررها الواحد تلو الآخر عن الديموقراطية والانتقال للديموقراطية في اطار صناعة أدبيات الديموقراطية في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين غير المنصرم. متى سينصرف، عفواً سينصرم، أخيراً القرن العشرين يا الهي؟

مذهل الادراك المفاجئ ان عملية التجريد هي عبارة عن حالة عينية غير مجردة، ان التجريد هو وضع حقيقي قائم. ومحترفو مهنة التجريد في الجامعات يفهمون الدكتاتورية فعلاً بشكل مجرد، ويعتقدون فعلاً انها لا تستند الى اي قواعد اجتماعية. ويذهلون من انه مع انهيارها تنهار بنى عديدة، انهم يعتقدون فعلاً انها مجرد قوة عارية يجب ضربها فقط لتتهاوى، ولينشأ على أثرها البديل الديموقراطي الذي لا يقل تجريداً في نظرهم، فهو كما يبدو ممكن بدون ديموقراطيين وبدون طبقات وسطى وبالوعظ الاستعماري ترافقه جهود استعمارية لا تكل لتفتيت البلد ولجعله يفهم ذاته سياسياً وليس اجتماعياً فحسب كمجموعة طوائف. وها هم الآن يخلطون حابل الحديث عن قواعد اجتماعية للديكتاتورية في ما يسمى «المثلث السني» المستفيد منها سابقاً بنابل التدخل الاجنبي السوري الايراني غير الودود، بالتطرف الشيعي المفاجىء... شرح يقنع به هواة في السياسة والعلوم الاجتماعية سوية انفسهم. على كل حال، غريب! فئات اجتماعية واسعة مستفيدة من الديكتاتورية ومتضررة من الوجود الاميركي؟ الامر اذا ليس ببساطة البدائل المجردة: اما دكتاتورية مجردة او ديموقراطية مجردة. وقد تحول «المثلث» في هذه الاثناء بقدرة قادر الى شبه منحرف.

وما دامت اميركا قد انتقلت من تشخيص العدو من تنظيم «الكائيدة» كما يقال في اميركا الى صدام حسين، فلا بد ان ما يجري في العراق هو تحالف بين القاعدة وصدام حسين. هكذا من دون عناء للإثبات ودونما جهد لايجاد دليل. ويتحول الاعلام الديموقراطي بقدرة قادر الى رسول الدعاية الرسمية ما عليه إلا البلاغ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. هل يعقل ان الدولة العظمى الوحيدة في العالم والتي تجند هذا العدد من المثقفين المرتزقة في خدمتها لا تستطيع ان تشخص لرأيها العام ولنفسها، أو لصناع القرار فيها على الاقل، ما هي طبيعة المقاومة العراقية ومن يقود المقاومة في العراق؟ ماذا يجري في الفلوجة؟ لماذا توقع الاميركان ان ينهار الصدر امام تهديده بالاعتقال فكانت النتيجة انتفاضة شيعية تقتدي بمقتدى الصدر في «صدر سيتي» حالياً، «مدينة صدام» سابقاً؟ وكيف وصل الامر بالاميركان الى مقتضى الاعتقاد ان نصيحتهم لوحدة الاستكشاف من المارينز المتوجهة الى الفالوجة لاستبدال الوحدة الاستخباراتية من الفرقة 82 المدرعة المحمولة (والشيطان وحده يعلم مذا تعني هذه المصطلحات) ان يطلق جنودها العنان لشاربهم، فقد يساعد الشارب في كسب ثقة المحليين الذين يقترن عندهم الشارب بالرجولة. وبقي التعليق على انه شاب متهور غير ناضج.

جاء الاميركان، او كأنهم جاؤوا، هكذا خيل لبعضنا، تحت شعار «حلبجة» فارتكبوا «فلوجة». مذبحة حقيقية قبل اقتحام المدينة من قبل دولة عظمى تقصف مسجداً مدعية بشكل رسمي ان خمسة مارينز قد جرحوا باطلاق للنار من داخله. وكأن على اميركا ألا تدفع أي ثمن للاحتلال وشعرة تسقط من جسم المارينز تبرر قصف مسجد وقتل خمسين مدني، الى يشبه هذا السلوك التعصب الاصولي والعنجهية الاستعمارية والهمجية البربرية في آن؟

لقد طورت سلطة الولايات المتحدة في العراق ديناميكة احتلال. فمنذ أن وقع الاحتلال وتبينت نواياه الاستعمارية فيما يتعلق بطبيعة الحكم وعلاقاته الاقليمية وعروبة البلد وثرواته ودوره العسكري مستقبلا تحولت كل الوقائع وكل التطورات الى اسباب تقود الى هذه النتيجة، الصدام مع المحتل الاجنبي.

وتكثفت الاسباب في حالة زعيم شاب يطلق على مكتبه اسم والده الذي اغتالته الديكتاتورية «مكتب الشهيد...» لا يمكن ان ينافس على السلطة ولا حتى داخل طائفته من دون الصدام مع الاحتلال، حتى لو لم يكن الصدام هدفه الاصلي. وهذا نموذج سيتكرر. واميركا التي يحسب المرء المعرض لشمولية دعايتها أنها ولدت من رحم الحرص على الديموقراطية والقانون وحكم القانون تصدر امر اعتقال ضده بتهمة المشاركة في التخطيط لقتل الامام الخوئي، وهو أن شهيد آخر اغتالته الديكتاتورية، ولكنها تستخدم امر الاعتقال كوسيلة ضغط ومساومة حول دوره السياسي وتصريحاته. وهذه ديناميكية سلوك دولة محتلة في علاقتها بالقانون والاستخفاف بتطبيقه في حالة تهمة القتل لا علاقة لها بسيادة القانون بل بمصلحة السلطة، مثلها في ذلك كمثل الديكتاتورية مع اضافة كونها استعمارية.

والاحتلال يقوم بعملية اعادة بناء للاقتصاد حسبما يراه هو مناسباً وبالمناقصات والشركات التي يراها مناسبة، ويرافق الجيش الاجنبي جيش من الباحثين عن الاثراء السريع من المدنيين الاجانب يراهم المحليون ابان أي أزمة كجزء من الاحتلال. ومع الجيش مرتزقة وجنود سابقون وخبراء عسكريون ومغامرون من ارخص الانواع تحولوا الى صيادين محترفين باجور عالية لدى شركات اميركية «فول تايم جوب» ممارسة عنصرية ضد العرب والمسلمين في مغامرة في الصحراء. ويولد الاحتلال العنف والعنف المضاد. والتنافس السياسي الطائفي وغير الطائفي يأخذ شكل تنافس بالموقف من الامريكان. ومدينة تبدأ قصتها مع الاحتلال في اشهر الاول من الاحتلال بحصد متظاهريها بالرصاص وتنتهي الى ان تكون محاصرة بعد صورالتمثيل البشع بجثث مرتزقة يعملون في امن الاحتلال مقابل اجر.

وتنتشر المقاومة لاسباب شتى، وهي تنتشر عبر التضامن الاهلي وعبر كل شيء. والمقاومة باسلة حتى في غير عصر حركات التحرر. هكذا تسمى مقاومة المدنيين لاحتلال عات طاغ كالاحتلال الاميركي الذي تركع له الانظمة وتتنافس على مخاطبة وده. قد لا نعرف الكثير عن هذه المقاومة وهي صورة عن شعبها ومجتمعها بخيره وشره وقمحه وزوانه، وقد ترافقها مظاهر الفوضى والتعصب والفتوة والتخلف التي نعرفها... وقد... وقد... لكنها انتفاضة مسلحة ضد احتلال اجنبي لا يرحم ويحمل من مظاهر التخلف والتعصب والزعرنة اضعاف مجتمعه هو، ولذلك فإنها انتفاضة باسلة. ونزيد على ذلك فنقول انتفاضة مدنية مسلحة. ولا ارى تناقضاً في مفهوم «انتفاضة مدنية مسلحة»، فهؤلاء مدنيون يحملون السلاح. ومن أغرب الغرائب سماع تصريحات متذمرة لضباط اميركيين يشكون من ان افراد المقاومة يختلطون بالمدنيين فيصعبون على قوة الاحتلال التمييز. ولكن هؤلا مقاومون مدنيون من اهل البلد ويحملون السلاح. فماذا يتوقع الجيش الاميركي، ان يقيم هؤلاء لانفسهم معسكرات خارج الفالوجة؟ انهم يختلطون بالمدنيين لأنهم مدنيين ولأنهم في بيوتهم، والاحتلال يأتي من دون مدنيين لأنه بعيد عن بيته ولأن جنوده ليسوا في بيوتهم بل يقصفون بيوت الآخرين ونتيجة القصف بالطائرة على منزل مدني يخلف وراءه ما تخلفه عملية التمثيل بالجثث ولكن من دون الجهد النفسي والقسوة المطلبين لأنه يتم من بعيد بالضغط على زر الاطلاق من دون ملامسة الجسد البشري باليد او بالعين.

وقد يندم الاحتلال على حماقة تسريح الجيش العراقي التي ارتكبها بريمر والبنتاغون بنصيحة مستشاريهم العراقيين الذين افهموهم ان الحرب وتغيير نظام صدام المكروه هو عبارة عن «بيس اوف كيك»، قطعة حلوى. هكذا تم تسريح 400 الف جندي من دون معاش يعتاشون منه. وكل امبريالي مبتدئ يعرف ان مهمة الاستعمار الاولى عندما يحتل بلداً هو محاولة شراء ولاء قوات الامن فيه واحتواءها. أما في العراق فقد حل الحاكم الاميركي الجيش والنظام باعتبار ان بديل الديكتاتورية الفوري هو الديموقراطية. وما هي الديموقراطية الاميركية في العراق حالياً؟ انها حرية أميركا ان تفرض ارادتها. وكل ما يمنعها من ذلك هو غير ديموقراطي ومصدر وجع رأس. وما اكثر مصادر وجع الرأس التي تعلن عن نفسها مرة واحدة. حتى احصاءها ومصدرها قد يسبب وجع الرأس، فما بالك بالسيطرة عليها. وحتى رجال اميركا في العراق بشارب وبدون شارب باتوا يرون مصلحتهم في العراق بالتنديد بالخطوات الامريكية. وانتقال الانتهازيين الى المعسكر المقابل هو مؤشر خطير حول وضع الدولة المحتلة.

هذه ديناميكية احتلال، لا اكثر ولا اقل. ولا يمكن ان تخرج منها الولايات المتحدة بسهولة. لقد عافت الناس مقولاتهم القصيرة «الساوند بايت» المأخوذة من افلامهم السخيفة. كما عافت الناس «ابي زيد» (مجرورة دائماً لأنه اسم اجنبي غير قابل للصرف) وسانشيز حتى لو أتى المرء العراق من كوكب آخر لحسب الامريكان البيض أقلية والسود والاسبان والعرب هم الاكثرية في اميركا. هكذا تبدو قيادة الجيش الامريكي في العراق، لان اميركا تطبق سياسات هوية من أرخص نوع. ولكن الورطة وقعت ولن ينفع فيها لا شارب ولا ابو زيد ولا ابو علي.

انه احتلال. وقد لا ينتهي الاحتلال على خير وقد لا ينتهي التحرر منه بديموقراطية. فالديموقراطية ليست البديل المجرد للديكتاتورية، وقد يكون بديلها ديكتاتورية اخرى او فوضى او غيرها، والديموقراطيون فقط يحولون الديموقراطية الى بديل اذا اقتنعت النخب السياسية والاقتصادية في مرحلة الانتقال انه يمكن ان تحقق مصالحها من خلال الديموقراطية. ولكن الاحتلال الاميركي ليس نموذجاً، هل تذكرون افغانستان؟ ستذكرونها قريباً جداً. الانتخابات الاميركية كفيلة بتقريبها الى الاذهان لأن الرئيس الاميركي وادارته يحتاجون الى نجاح ما في السياسة الخارجية ازاء استبسال المقاومة في العراق.

وما اسهل العودة الى افغانستان. الانتخابات فيها تؤجل من حزيرن الى ايلول لأن 15 في المئة فقط من اصحاب حق الاقتراع قد سجلوا وذلك بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على احتلالها. ولكن لا بد من اجراء الانتخابات في افغانستان قبل نوفمبر، قبل الانتخابات الرئاسية الاميركية، وذلك ليس من اجل الديموقراطية الافغانية بل من اجل الديموقراطية الاميركية.

ماذا سيتذكرون ايضاً؟ سيتذكرون ان رئيس افغانستان هو من حيث الصلاحيات الفعلية اقل من رئيس بلدية كابول. وماذا ايضاً؟ ان افغانستان تنتج حالياً ثلاثة ارباع الأفيون في العالم وتصدر هيرويين ببليوني دولار. وان الميليشيات التي تتعاون مع امريكا في مطاردة القاعدة وطالبان تتاجر به بمعرفة امريكا وحلفائها لتعتاش. وان حركة طالبان لا تزال تقيم حواجز تفتيش في مناطق محتلة من افغانستان. هل تذكرتم افغانستان؟

قد يتعلم الاميركان في ادارتهم القادمة بعد الانتخابات من تجربتهم في العراق وقد لا يتعلمون، ولكن على مؤيدي الاصلاح عربياً على الدبابة الاميركية ان يتعلموا وان يتوقفوا عن المزاودة الفارغة لأن منطقهم بات يقودهم الى دعوة الاميركان لاستخدام المزيد من العنف ضد شعبهم.

لقد تورطوا وليس لديهم اي وسيلة اخرى ليثبتوا انهم على حق سوى تكرار ما لا يمكن اثبات صحته او خطأه انه لو تم توظيف كم كاف من العنف الاميركي وفي الوقت والمكان المناسبين لكان بالامكان تجنب هذه الورطة وتوفير تلك المصيبة. كلام فارغ، نسمع كلاماً فارغاً وجعجعة ولا نرى طحيناً، ولكن التعاسة البشرية العبثية ملء العيون. - الحياة اللندنية -