خلال عصر الإمبراطوريات، ارتفعت دائماً أصوات شجاعة للضمير، فقد اشتهر بارتو لوميو بالكفاح لمنع الإمبراطورية الإسبانية من تدمير السكان الأصليين . وقاوم جون براون بعناد استعباد الأفارقة في أميركا البيضاء، وقاد مارك توين الاحتجاج على جرائم الولايات المتحدة في المكسيك والفلبين، ونصّب برتراند راسل نفسه داعية ضد الإمبراطورية البريطانية . ودفعت راشيل كوري حياتها ثمناً للدفاع عن بيت فلسطيني في رفح . وأخيراً وليس آخراً خرج مردخاي فعنونو عالم الذرة الإسرائيلي ليكشف أسرار الترسانة النووية الإسرائيلية.

يوم 21/4/2004، وبعد ثمانية عشر عاماً من السجن، أفرج عن مردخاي فعنونو، وقد تم التعريف به من أبناء جلدته الإسرائيليين كخائن بصق على تراثه وتنكر لدين أبويه وجذوره، وكنفس معذبة ومتهالكة، وككلب أجرب .وكل هذا الوصف جاء في مقالة الكاتب الإسرائيلي اليكس فيشمان في صحيفة يديعوت 22/4/ . 17% من الإسرائيليين فقط أيدوا الإفراج عن فعنونو بلا شروط، الحكومة والمؤسسة الأمنية جرّدتاه من إنسانيته، فطالب بعض المتظاهرين وجماعة كهانا بقتله. وبالفعل أصبحت حياة فعنونو خارج المعتقل في خطر داهم.

كان الإرباك الإسرائيلي الرسمي والشعبي سيد الموقف، وهذا ما دفع فيشمان للتساؤل: كيف وصلنا إلى وضع يقف فيه جهاز أمن كامل خائفاً حيال رجل صغير وسخيف؟ ويجيب لو كان المجتمع الإسرائيلي قوياً وواثقاً بعدالة طريقه لأمكنه التصدي لظراهر من هذا النوع، ولما خشيت الحكومة من مغادرته للبلاد . من جهته قدم فعنونو نفسه بالقول، لم أكن جاسوساً ولا خائناً، كل ما أردته هو إطلاع العالم على ما يحدث هنا "يقصد الترسانة النووية الإسرائيلية" خلافاً لسياسة حكومة إسرائيل . لقد قمت بشيء جيد لصالح العالم وأود أن تعيش عائلتي في المغرب أو فلسطين. ويبدو هنا أن فعنونو وفي مسار صراعه مع المحققين الذين أذاقوه مر العيش، توحد مع الضحية إلى حد التطابق، أي أصبح فلسطينياً، ويعامل كما يعامل الفلسطينيون، يعذب ويحرم من أبسط الحقوق، ويخضع لقوانين أنظمة الطوارئ البريطانية للعام 1945. ولم يكن من باب الصدفة مطالبة عدد من المتظاهرين بقتله كما يطالبون بقتل الفلسطينيين . وبهذا المعنى فإن إنسانية فعنونو تعمقت وازدادت ثراءً وغني وأصبحت نموذجاً تاريخياً للضمير الإنساني الحي. حالة فعنونو شبيهة بحالة راشيل كوري التي توحدت مع الضحية وأصبحت فلسطينية، وماتت كما يموت الفلسطينيون، لكنها تحولت إلى رمز الضمير الإنساني المقاتل في سبيل الحرية .

إن صورة فعنونو في العالم هي صورة المناضل من أجل السلام الذي قال لا لغطرسة القوة، ولا لأسلحة الدمار الإسرائيلية وكان مستعداً لدفع حياته ثمناً لهذا الموقف الشجاع، بل دفع ثمانية عشر عاماً من حياته في أسوأ شروط اعتقالية منعزلة. لهذا السبب فقد جاءه المناصرون من كل حدب وصوب كي يحتفلوا بالإفراج عنه.إن كل المناصرين للسلام والمناهضين للحرب، وكل المدافعين عن حقوق الإنسان والبيئة تعاملوا مع فعنونو كبطل من أجل السلام، وطالبوا بإلغاء القيود المفروضة عليه بعد خروجه من المعتقل وتأمين الحماية له .

هل يمكن ردم الهوة السحيقة بين صورة فعنونو الإسرائيلية التي تقول إنه خائن ومنبوذ وكلب أجرب، وبين صورة فعنونو الدولية التي تقول إنه بطل سلام وقديس. بالتأكيد لا يمكن ردم الهوة بين الصورتين ولا يمكن إيجاد مقاربة بينهما، فإسرائيل ترى في هالة البطولة التي أسبغت على فعنونو كنتيجة لدعم من جانب كارهي إسرائيل . وكارهو إسرائيل هم كل من ينتقد السياسة العدوانية الإسرائيلية ويحتج على التنكر الإسرائيلي للقانون الدولي ولحقوق الإنسان، وكل من يفعل ذلك يصبح كارها لإسرائيل ومعادياً للسامية أيضاً وهو بيت القصيد ، وخاصة بعد أن فرضت الولايات المتحدة وإسرائيل تعريفاً جديداً للاسامية، وفرضته على بعض المعاجم كمعجم ويستر الذي أضاف إلى التعريف المتبع لكلمة معاداة السامية بأنه "المعارض للصهيونية والمتعاطف مع أعداء دولة إسرائيل"!! ووفقاً لهذا التعريف فإن ما قام به فعنونو يعد عملاً معادياً للسامية، وكذلك فإن مؤيدي فعنونو هم معادون للسامية. وحتى نعوم تشو مسكي اليهودي الأميركي تعتبره المؤسسة الإسرائيلية متطرفاً في معاداة إسرائيل، لا لشيء إلا لأنه ينقد السياسة العدوانية الإسرائيلية وينقد الدعم الأميركي السافر لها . وفي معرض رده على الابتزاز يقول تشو مسكي بما معناه: إن مثل هذه الاتهامات مثيرة للسخرية، وهي تعكس قيماً استبدادية متأصلة لدى الذين يستخدمون هذا السلاح فسياسة العدوان والقتل والاحتلال العسكري والاستيطان والعقوبات الجماعية وهدم المنازل وإذلال السكان الأصليين من قبل دولة إسرائيل ، يجب أن تتطابق مع الشعب الإسرائيلي، وشعوب العالم والثقافة والمثقفين، أي يجب أن تفرض على العالم رغما عنه . لأن انتقاد هذه السياسة هو إنكار للشعب اليهودي في كل مكان وعبر الأزمان. ولا شك في أن هذا الابتزاز يشكل ضربا من ضروب العنصرية ويتناقض مع قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان . وهذا الموقف الإسرائيلي يتطابق مع مواقف الأنظمة الشمولية المستبدة الذي يشكل أي نقد لسياسة الحاكم فيها نقداً للدولة والشعب والأمة والمعتقدات، وبالتالي، فإن هذا النقد يقود إلى إقصاء صاحبه كموقف وربما وجود .

إن خروج فعنونو من المعتقل، يحتمل إعادة طرح التسلح النووي الإسرائيلي على بساط البحث، البعض يتوقع انفجارا إعلامياً، خاصة بعد توجه برنامجين تلفزيونيين مهمين في الولايات المتحدة إلى فعنونو وعرضا عليه مبالغ مالية ضخمة مقابل إجراء مقابلة معه، وثمة من يطرح على إسرائيل كشف قدرتها النووية والخروج من سياسة الغموض والانضمام إلى اتفاق جديد وإبرام اتفاقيات إقليمية لمراقبة التسلح . غير أن المطلوب الآن هو إطلاق حملة سياسية وإعلامية ضد التسلح النووي الإسرائيلي ومخاطره التي خيمت على المنطقة . وكشف حقيقة أن إسرائيل تسعى للهيمنة الكولونيالية على شعوب المنطقة ودولها .وان قوة إسرائيل النووية هي أحد مسببات عدم التوصل إلى حل سياسي ينهي الاحتلال العسكري ويمكن الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره دون وصاية . وهي أحد مسببات استمرار الحرب والعدوان ومحاولة قهر شعوب المنطقة. ومطلوب تحديد مسؤولية العالم عن غض الطرف عن برامج التسلح الإسرائيلية طوال العقود السابقة . وكشف التواطؤ الأميركي الغربي إزاء سياسة التسلح الإسرائيلية، وتعامل الغرب بمعايير مزدوجة مع دول أخرى مثل إيران ومصر وباكستان وليبيا وسورية والعراق وكوريا الشمالية، في مجال أسلحة الدمار الشامل . إن الثمانية الكبار يتعاملون مع إسرائيل كدولة نووية عظمى ويستجيبون لإبتزازاتها السياسية والأمنية، لكنهم لا يطالبون هذه الدولة، "العظمى" بالتوقيع على اتفاقات الحد من الأسلحة النووية ولا يخضعون منشآتها النووية للرقابة والتفتيش فإلى متى؟ والى متى تستمر التغطية الدولية على هذه "القوة العظمى" بالحديث عن التهديد الوجودي المزعوم لها من قبل الشعب الفلسطيني الأعزل؟ .