رغم ان احداث غزة قبل نحو اسبوعين، والتي تبعتها احداث مشابهة في مناطق الضفة الغربية، اظهرت صورة سلبية للشعب الفلسطيني، وأظهرت جانباً من التعب والارهاق الذي يعاني منه، بما جعل من تطويقها واحتوائها فعلاً واجباً وضرورياً، ورغم ان الحديث عن الاصلاح ايضاً لا يبرر مثل هذه الاحداث، إلا انه لا يجوز بأي حال من الاحوال غض النظر عن الاسباب العميقة التي دفعت الاوضاع الداخلية الى الانفجار، وتجاوز مظاهر ازمة النظام السياسي القائمة.
ولم يكن امراً قليل الاهمية ان تبدأ حالة الاحتقان الداخلي باختطاف مسؤول فلسطيني، لتصل الى مستوى القمة في السلطة بتقديم رئيس الحكومة لاستقالته وحكومته، بحيث يبدو التراجع عن الاستقالة، بعد تلبية بعض الشروط حلاً للازمة.
ففي حقيقة الامر، لم يكن الخلاف ولا اساس الازمة هو بين مؤسستي الحكومة والرئاسة، كما كان الحال، على سبيل المثال، ابان عهد الحكومة السابقة، فالاحتقان في قاع المجتمع وعلى الارض ما زال قائماً، ومعالجته بحاجة الى اصلاح حقيقي لمجمل برامج وآليات عمل النظام السياسي الفلسطيني القائمة.
فحكومة ابو العلاء، ورغم انها بدأت مشوارها في تحمل المسؤولية الى جانب مؤسسة الرئاسة، ولم تبدأ ولايتها بالخلاف مع تلك المؤسسة، أو من زاوية البحث في صلاحياتها على حساب تلك، مما جنّب كلتيهما الاحتكاك او التنازع فيما بينهما، بحيث ظهرتا كمؤسستين تكمل احداهما الاخرى، بما اظهر للخارج عدم وجود شقاق داخلي فلسطيني، فإن ذلك لم يكن كافياً لتجنب الفشل في اداء المهمات المنوطة بها.
وبعد ان اغلق ملف الاصلاح، او على الاقل تباطأت وتيرته داخل اجهزة ومؤسسات السلطة، اظهر انفجار الشارع ضعف الاداء الرسمي على الصعيد الداخلي بمستوييه الامني والسياسي، وهذا ما دفع بعض قادة الاجهزة الى تقديم استقالاتهم، حتى وصل الامر الى الحكومة ذاتها.
بعد ان ظهرت كحكومة غير قادرة على الايفاء بالتزاماتها التي تقدمت بها في جلسة التشريعي لنيل الثقة، كما ورد في كتاب استقالة الاخ ابو العلاء. فعلى الصعيد الامني لا وجود لهيبة السلطة ممثلة بأجهزتها الرسمية، بعد ان تجرأت الميليشيات في السير بعيداً على طريق التدخل في الاوضاع الداخلية، بعد ان اجهضت عدة محاولات سابقة لتنظيم السلاح وعدم اطلاق النار والاستعراض به في المناسبات الوطنية والشعبية، وضربت بعرض الحائط بقرارات وزارة الداخلية، حين تولى مسؤوليتها الاخ هاني الحسن لدرجة ان الاجهزة الامنية ذاتها، باتت تجد نفسها، او بعضها، منساقة لحالة تشكيل مجموعات مسلحة خاصة بها، لتحافظ على نفوذ ميداني لا يتحقق الآن سوى عبر الشكل الميليشياتي المسلح، وبعض هذه الميليشيات التي لدى الفصائل، بعيد عن السيطرة الحزبية الكاملة وبعضها مشغول بالاوضاع الداخلية اكثر مما هو مشغول بمقارعة الاحتلال.
الربط بين الاوضاع الداخلية ومهمة التصدي للاحتلال، بدا مسألة في غاية التشابك والتعقيد، وبحكم الثقل المركزي الذي تتمتع به الرئاسة على الصعيدين السياسي والداخلي، فإن طريق الاصلاح ذاته، بدا غير ممكن للمرور دون اجراءات حاسمة من قبل هذه المؤسسة بالذات.
مؤسسة الرئاسة اصدرت جملة من القرارات الخاصة بالمناقلات، كذلك اقرت الحكومة خطة عمل لتفعيل الشرطة، ورغم اهمية هذه الاجراءات الا انها لا تبدو كافية لمعالجة الازمة عميقة الجذور، ذلك ان المستوى القضائي والعمق الشعبي في المساءلة ما زالا مغيبين، فلا يكفي اعفاء متهم بالفساد من المسؤولية الرسمية، كما لا يجوز الاكتفاء بالادعاء بالتهمة، لا بد ان يدخل القضاء كفيصل وكحكم، لمحاسبة من تطاولوا على الاموال العامة، كذلك لمنع التجاوز على النظام العام، وأخذ البعض القانون العام بعضلاتهم المسلحة.
المشكلة عامة وعميقة وتطال الجميع، لكنها تكمن بالاساس في جماعية الاداء والمسؤولية، وتكامل الادوار بين مؤسسات السلطة، وبين السلطة والمعارضة، والنخبة والشارع.. الخ، والسؤال هو كيف تتحول مؤسسات السلطة الرئيسية: الحكومة والمجلس التشريعي الى شركاء مع مؤسسة الرئاسة، وكيف يحتكم الجميع للنظام الاساسي، ضمن اطار مراقبة ومحاسبة السلطة القضائية، وكيف يكون الاداء العام مكشوفاً امام الرأي العام الشعبي، كيف تجلس السلطات الثلاث: التنفيذية، الحكومة، التشريعية/ المجلس التشريعي والقضائية الى جانب الرئاسة، ولا تكتفي بأداء الدور التجميلي الوظيفي لديها وحسب.
الخروج من الازمة يحتاج طاقات الشعب الفلسطيني بأسره، ويتطلبه حكماً وقاضياً، ذلك انه حتى الاستعانة بحزب السلطة - حركة فتح- رغم اهميته لا يبدو كافياً، فالازمة ليست ازمة فتح والسلطة وحسب وما يزيد من تعقيد الامر وخطورته انه يتم في ظل تطورات مهمة للغاية على الصعيدين الاقليمي والدولي، خاصة تلك المحيطة بالشأن الفلسطيني، وتسارع الاحداث على صعيد المواجهة مع الجانب الاسرائيلي ومجمل التطورات الاقليمية يفرض تحدياً بالغاً على الشعب الفلسطيني، ليسبق الزمن، حتى يجد مكاناً له في الترتيب الاقليمي للمنطقة الذي يتشكل الآن.
اما معالجة الازمة بالعودة الى برنامج الاصلاح المقر في التشريعي منذ عامين، فبقدر ما اكد اهمية تنفيذ برامج الاصلاح، اكثر من مجرد الاقرار بها، حيث انه من المؤكد لو تم التعامل بمسؤولية مع تلك الورقة منذ حينه، لما وصلت الاحوال الداخلية الى ما وصلت اليه، فإنه بحاجة الى قوة ميدانية لمتابعة التنفيذ، ذلك ان الفساد لم يعد متعلقاً بعدد من الاشخاص بل باتت له آلياته وقواه ومنظومته الادارية الكاملة.
كذلك فإن جملة الاجراءات التي اتخذتها الحكومة، عبر خطة العمل لتفعيل الشرطة ونشر وحداتها، بقدر ما هي اجراء تنفيذي مهم، فإنها محفوفة بالمخاطر ولا يجوز لأحد النوم على فراش من حرير، ففي الضفة الغربية اعلنت اسرائيل بوضوح معارضتها للخطة، كما ان فرضها في غزة، سيصطدم بالضرورة بمن يرفضون النظام العام، احتجاجاً او تذرعاً بفساده.
ولا يجوز للسلطة ايضا وضع البرامج غير ممكنة التنفيذ، بسبب الاحتلال، كما الحال مع الانتخابات العامة. فالتحول الاساسي في عملية الاصلاح ما زال بحاجة الى ان يستند الى العمق الشعبي والى المضمون الديمقراطي، فالمتضرر من الفساد والفوضى وبالاتجاهين، هو المواطنون، اي عموم الشعب، لذلك فإن الشعب ما لم يكن حاضنة الاصلاح وأداته. فإن المستقبل الناجح لعملية الاصلاح لن يكون مضموناً بحال من الاحوال، وكما كان الشعب هو ضمانة الصمود السياسي، فإنه ضمانة الاستقرار الداخلي ايضاً، لذلك لا بد من الاحتكام اليه، وعلى كل من يسعى الى قيادته ان يقدم له اوراق اعتماده دائماً، في كل وقت وفي كل مرحلة. - الأيام -