هل انكسرت موجة الإصلاح؟ وهل هدأ "الإصلاحيون" قليلاً، بانتظار فرصة قادمة؟ وهل تحدث مصالحة مؤقتة؟ أسئلة عديدة مطروحة بقوة في الساحة الفلسطينية المأزومة. والآن، تشير التفاعلات الداخلية الى هدوء مشوب بالحذر، وذلك بعد انكسار حركة "الإصلاح" بسرعة قياسية، منسوب للوعود التي أطلقها "إصلاحيون"، نافذون. واللافت للنظر أن التحرك الذي افتقد لأي زخم، لم يحدث استقطاباً في قاعدة الحركة السياسية وقاعدة فتح على نحو خاص. وبقي الاستقطاب في القشرة العليا والعناصر القاعدية المتحلقة حولها. القاعدة بقيت تراقب وهي متوجسة من "الإصلاح" الذي هبط بشكل فجائي وبلا مقدمات أو نضالات تراكمية. واللافت للنظر أيضاً أن الخطاب الإصلاحي الذي جرى تقديمه كان مستواه منخفضاً وهابطاً، وقد فقد القدرة على التمويه، نظراً للغنى والتنوع السياسي في هذه المساحة الملتهبة. فبقيت الأهداف السياسية طاغية على أهداف مكافحة الفساد والفاسدين. كان هدف التحرك الجديد، اختراق الانسداد السياسي من خلال التساوق مع خطة فك الارتباط الاسرائيلية. وهذا التحرك هو امتداد للتحرك السابق الذي حاول الخروج من المأزق السياسي عبر التعاطي مع القراءة الأميركية الاسرائيلية لخطة خارطة الطريق. وكلا التحركين أخفقا بسرعة قياسية، لا بسبب افتقادهما لدينامية تغيير داخلية فقط، ولكن بسبب المواقف والمفاهيم الاسرائيلية والأميركية. فإسرائيل تريد شريكاً فلسطينياً تابعاً ومستكيناً، ويفتقد للحد الأدنى من الاستقلال والندية. وهنا يمكن القول، ان ثمة علاقة قوية بين المشروع السياسي الاسرائيلي (خطة الفصل العنصرية) والشراكة الفلسطينية المطلوبة. فهذا المشروع التصفوي يستهدف تفكيك الوضع الفلسطيني الى كانتونات ومعازل، وتنصيب وكلاء عليها. وهو بهذا المعنى يشكل نقيضاً للمشروع الوطني. ان الوضع الفلسطيني المأزوم ، بل يحتاج الى مبادرات سياسية تنزع زمام المبادرة من الاسرائيليين وتعيد بناء الوضع الداخلي الفلسطيني وتوحده على أهداف مشتركة، وتعيد بناء تحالفاته العربية والدولية، وتنهي استفراد القوة الغاشمة الاسرائيلية بالشعب الأعزل. ولكن هذا النوع من المبادرة الضرورية والمطلوبة شيء، والتحركات الآنفة الذكر شيء مختلف.
إن رفع شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد والديمقراطية وحرية التعبير يجب أن تنطلق من أشخاص يستطيعون كسب ثقة الجماهير بهم وبشعاراتهم. ان أكثرية المواطنين حسب استطلاعات الرأي تقرّ بوجود فساد في مؤسسات السلطة ولدى قسم كبير من المسؤولين الأمنيين والسياسيين والإداريين. وقد امتنعت الأكثرية من الدخول في استقطاب كهذا.
واذا كان الخطر قد ابتعد قليلاً، فإنه لم يزل قائماً، وسيبقى كذلك، ما لم يتم درء الذرائع التي يستند اليها وفي مقدمتها الفساد الإداري والمالي. المطلوب الآن ادخال تعديلات في البنية المشوهة، التي باتت تشكل عقبة وكابحاً للتماسك الوطني في مواجهة مشاريع التصفية والفصل العنصري. لا يمكن الصمود طويلاً وهذه البنية على حالها، فقد ثبت أن الفاسدين يغيرون مواقفهم ومواقعهم تبعاً لمصالحهم الخاصة. فهم يريدون ثمناً إذا بقوا في مواقعهم الاستئثارية، ويبحثون عن ثمن في مواقع أخرى. انهم يزعزعون الثقة الجماهيرية بالمشروع الوطني وبالسلطة والقيادة. ولا شك في أن المخاطر الناجمة عن إقصائهم أقل ضرراً من مخاطر بقائهم. الآن أصبحت القيادة أمام مفاضلة، بين بقاء الفاسدين في مواقعهم وخسارة ثقة أغلبية المواطنين بالمشروع الوطني، أو إقصاء الفاسدين وكسب ثقة أغلبية الشعب وضمان الانخراط في الدفاع عن المشروع الوطني. لا يمكن الجمع بين الطرفين في الشروط الجديدة، ولا يمكن تأجيل أو ترحيل المعالجة الى ما بعد الحل السياسي وزوال الخطر. قد يعترض البعض بالقول ان التشوهات التي تشكلت على امتداد عقود طويلة لا يمكن معالجتها مرة واحدة. هذا صحيح. ليكن التغيير خطوة تلو الأخرى، والمهم هو صافرة البداية والخطوة الاولى، واليوم الاول. المشكلة الآن شديدة الخطورة، وعنوانها أزمة ثقة بين أكثرية الشعب والسلطة. بعض الشرائح والنخب وصل بها الأمر حد المطالبة بحل السلطة حتى لو أدى ذك الى عودة الاحتلال المباشر. لكن الأكثرية تود مكافحة الفساد وإقصاء الفاسدين وأصحاب الامتيازات والوكلاء المنتفعين، تريد بصيص أمل، وخطوات رمزية والمهم تعليق الجرس.
والبعض الآخر لا يعلق أملاً على المطالب الإصلاحية الصادقة، اذا لم ترتبط بضغوط ديمقراطية داخلية. فالمناشدات الأخلاقية لا تملك امكانية للتأثير في عالم السياسة. ويقدم هؤلاء نموذج الضغوط الخارجية التي انتزعت خطوات إصلاحية بالضغط وليس بالمطالبة. فلماذا لا توجد ضغوط داخلية؟ السبب واضح ومعروف. لأن القوى السياسية المعارضة تعتمد أيضاً مبدأ المناشدات الأخلاقية، والنصح والإرشاد. إنها تقول كلمتها وتمشي بصرف النظر عن النتيجة السلبية. ولا تخشى من خطر الشطب، لأن موقعها محفوظ بنظام الكوتا وكفى! أما المعارضة الإسلامية فإن كل ما يهمها هو إفلاس هذا المشروع مرة واحدة والى غير رجعة.
وفي هذه الحالة فإنها ستتصدر المكان بلا منافسين. والنتيجة، لن يأتي الإصلاح من تلقاء نفسه، فالبنية التنظيمية للنظام السياسي تفتقد الى ديناميات التغيير والتطوير من داخلها، ولن يأتي الإصلاح بالمناشدة الأخلاقية. ويبقى الرهان على تبلور قوى ديمقراطية من داخل الحركة الوطنية والمجتمع المدني، قوى تخوض النضال الديمقراطي، وتستعد لدخول الانتخابات. والانتخابات وحدها لا تشكل وصفة سحرية. فدون رافعة تغيير تحاول الاستقواء بالقوى الحية في المجتمع، لن تغير الانتخابات كثيراً، فالفاسدون قادرون على اعادة انتاج ذواتهم وثقافتهم المدمرة.