في اليوم الأول، يشعر السجين المضرب عن الطعام بالجوع الأكبر على أساس أن كل بداية صعبة.
في اليوم الثاني، يبتعد الجوع الأكبر لصالح الجوع المتوسط ويبدأ الجسم بمقاومة عادية لتقبل الامتناع عن الطعام.
في اليوم الثالث، يتبقى الجوع الأصغر الذي ينتهي عند بدء اليوم الرابع ليغيب الجوع نهائياً ويدخل الجسد في حالة استرخاء هي أشبه بالتخدير، "لا جوع ولا هم يحزنون".
ومع بدء عد أيام الاضراب منذ البداية تدخل (نعمة) عدم التدخين برفض الجسم حتى لرائحة السيجارة، وعند اليوم الرابع، يبدأ الافتراق بين السجناء في القدرة على المقاومة فمنهم من يظل يحمل من طاقة الحركة طبعاً ليست الطبيعية حتى اليوم الرابع عشر، ومنهم من اليوم الثالث يتوقف عن الحركة، وحتى اللحظة لا يوجد تفسير واضح، هل المسألة تتعلق ببنية الجسم، أم معنوية بحتة، أم ماذا، ربما مرتبطة بهذين العاملين معاً أو بغيرهما.
كان ـ الاستمرار في الحركة ـ والتصرف كأن لا وجود لاضراب عن الطعام، يثير الحيرة عند ادارة السجن، فهذا السجين مضى عليه أسبوع دون أكل ومع ذلك، لم يتغير كثيراً، ومع أيام الاضراب القادمة هو نفسه، ولا أعرف أين هو الشبل حسن الذي ظل يصلي الصلوات الخمس في اليوم وحده بشكل عادي بينما غيره أصبحوا يصلون وهم جالسون، ولكنه حالة لافتة للنظر، دون أن تنال منه أيام الاضراب.
إن الذين لم يخوضوا تجربة (الاضراب) عن الطعام لأسبوعين وأكثر، لا يعرفون ولا يستوعبون هذه (التجربة) وبذلك يعتقدون بزيادة الجوع كلما طالت أيام الاضراب، ويتساءلون كيف يصبرون؟، وببساطة بعد اليوم الثالث لا مكان للجوع، إلا في حالة (أكل) ولو (لقمة) واحدة فهي تستفز الجسم وتزيد من آلام الجوع، وغيرها يعيش الإنسان السجين المضرب عن الطعام في حالة (استرخاء) جسدي تحمل شيئاً من اللذة التي لا يعرفها إلا من خاض هذه التجربة وهم بالآلاف على مدار سني الاحتلال.
اللجوء للاضراب عن الطعام من قبل الأسرى هو السلاح الأخير، أو (التجربة) الأخيرة، تجربة التعمد بآلام الجسم، وروح الجسد، من أجل تحقيق شيء من الكرامة الإنسانية المفقودة مع الاعتقال، مع السجن، مع الأسر، مع توديع الحياة العادية لصالح نمط جديد من الحياة في زنزانة، في غرفة، نمط اجتماعي غذائي ثقافي، بيئي جديد، وله خصوصيته الفريدة.
إن السجن ليس نهاية المطاف، وانما بداية، فالسجين حين يغادر السجن يحمل معه السجن الذي ربما يعود إليه مرة أو مرتين أو خمس مرات، يأخذ السجن معه حين يغادر وحين يعود مرة ثانية يحمله معه وهكذا حتى اللحظة الأخيرة من حياته، هو خارجه، ولكن روحه داخل السجن.
وهكذا، حين يعلن الأسرى الاضراب عن الطعام في سياق صراع مستمر بين الأسرى وادارة السجون منذ البدء، بدء الاحتلال ويستمر حتى انتهاء الاحتلال، والهدف واحد، وتكاد تكون قائمة مطالب أول اضراب عن الطعام، والاضراب الذي بدأ يوم الأحد الماضي متشابهة، فالسجين يريد تحسين شروط وظروف سجنه، وتحقيق شيء من انسانيته المفقودة في السجن فنوعية الأكل المقدم، وكذلك الكتب الموجودة داخل مكتبة السجن، وزيارة الأهل للسجين، وادخال الصحف، ووقف الاعتداءات على المعتقلين، هي مطالب دائمة وثابتة.
صحيح أن ظروف السجن اختلفت بين أوائل السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وأوائل التسعينيات لكن هذا الاختلاف يظل قاصراً عن تلبية الحد الأدنى من المتطلبات الإنسانية للإنسان السجين، فاستبدال (الكوشة) بالفرشة، واستبدال نشرة أخبار الصباح من الاذاعة الاسرائيلية بنشرات أخبار الاذاعات، هو متغير لكن قياساً باتفاقية جنيف الخاصة بمعاملة الأسرى يظل الأسير الفلسطيني مضطهداً ومقموعاً، وهذا (السر) وراء استمرار الصراع بين الأسرى وادارة السجون، بأرقى اشكال المقاومة في السجون وهو الاضراب عن الطعام.
لا يمارس الأسرى (الاضراب) كهواية أو فانتازيا لكسر رتابة الحياة، ولكنهم يلجأون اليه كخيار أخير، وهو الخيار الأصعب، فاتخاذ قرار الاضراب عن الطعام ليس سهلاً وانما ينطوي على صعوبة كبيرة لمن عايش هذه التجربة بالذات، ولكن حين تغلق الأبواب، وخاصة بعد سحب انجازات من السجناء، يكون الجواب بالاضراب عن الطعام، وليكن ما يكون كآخر وسيلة ضغط، على ادارات السجون، التي يبدو أنها تتعاطى بعنجهية مع الاضراب الحالي كما دل حديث وزير ما يسمى الأمن الداخلي القائل ليموت السجناء!!
وهي رسالة واضحة، مفادها ان الأسرى هم بحاجة خاصة في لحظات الاضراب عن الطعام لمن يقف معهم، ولمن يثير قضيتهم، ولمن يتحرك متضامناً معهم، فالأهل من الطبيعي أن يكونوا أول المنفعلين مع اضراب ابنائهم عن الطعام لكن هذا لا يكفي.
إن هناك حاجة لادراك حقيقة أن لا فضل لأسير على أسير آخر، فالكل أسرى وفي السجن تذوب كل الفروقات المصطنعة في الخارج، فالغرفة هي الغرفة، والزنزانة نفسها الزنزانة، ولكن يلاحظ أن هناك من يحاول تصدير مرض الخارج، عبر التمييز بين الأسرى فصائلياً وعائلياً وشكلياً، وهذه ظاهرة خطيرة تضعف من التضامن مع الأسرى كحالة واحدة، فهل نكف عن هذه الفوضى؟!
عندي ان أفضل الأسرى هو الأسير الصامت الذي تجاوز تجربة التحقيق بصمت دون ان يقول كلمة واحدة، وهو الذي انكب على تثقيف نفسه، واستغل ظروف السجن بالشكل الذي يفيد نفسه ويفيد الآخرين، إن الانتصار على السجن لا يكون سوى بتجيير ظروف السجن لبناء نفسه ثقافياً وعلمياً، هذا هو أفضل الأسرى، وليس الذي أصابه الاسهال في التحقيق وعند العصافير، حتى لو كان من القيادات!!.
ليس دائماً الاضراب عن الطعام (نقمة) فقد يتحول الى نعمة وبخاصة حين تجد نفسك في زنزانة (16) في سجن الفارعة قبل أن ينتهي، فالخروج لقضاء الحاجة في هذه الزنزانة كان مرتبطاً بموعد السجان الذي يفتح الباب مرة واحدة في الأربع والعشرين ساعة ولدقائق معدودة يكون ثمن التأخير وجبة من (الضرب)، لهذا حين تكون مضرباً عن الطعام، فأنت مضرب عن قضاء الحاجة، وبذلك لا تضغط على بطنك لا قليلاً ولا كثيراً.
إن الاضراب الحالي ليس الأخير، ولكنه التجربة الأولى وسط تحولات محلية واقليمية ودولية، وبذلك له طعم خاص، يفترض وصوله حتى النهاية بالنجاح. - الأيام -