للمرة الألف، يبدأ المعتقلون والأسري الفلسطينيون والعرب إضرابهم المفتوح عن الطعام احتجاجاً علي الإهمال الطبي والتفتيش العاري والضرب والإذلال والتجويع والعزل الذي تمارسه إدارات السجون الاحتلالية، حيث أعلن آلالاف من أسري الحرية معركة الأمعاء الخاوية لمواجهة إسداف العتمة والرطوبة والاختناق والقوانين الطارئة البائدة، لتكون الجدران السميكة ولزوجة الدم وقشعريرة القضبان الغليظة والغاز المُسيل للعار وتلوّي البطون والأوجاع أقلّ موتاً وثقلاً علي الأطفال المعتقلين الذين يتم ابتزازهم جنسياً وترويعهم، مع الأسيرات اللواتي تفرض إدارة السجن عليهن التعرّي ويتعدّي عليهن الجنود المتطرفون، وليتمكن الأسير من التنفس بعيداً عن مدافع الغاز وحرارة الصناديق الحجرية، محكمة الإغلاق، ولكي لا يختنق السجين بماء المراحيض أو الهراوات أو تأكل جسده الفطريات وهوام الصحراء في المعسكرات الاعتقالية.

ويجوع هؤلاء المعتقلون ليحصل المريض علي حبّة دواء، والمعزول علي نقطة ماء، والأسير علي حق بسيط كالنوم أو الكرامة أو الاستحمام.

ولعل هذه السياسة الإسرائيلية الحاسمة بدأت منذ المعتقل الأول حيث أعلن وزير الحرب الإسرائيلي موشي ديان، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، بأنه سيجعل المعتقلين العرب والفلسطينيين في باستيلات الاحتلال معاقين وعبئاً علي أنفسهم وعلي شعبهم، مثلما أكدّ تسحي هنغبي، وزير الأمن الداخلي الاحتلالي، بأن المعتقلين يستطيعون أن يضربوا عن الطعام حتي الموت! وكأنه بذلك يشرّع رسمياً لقتل هؤلاء المقيّدين والعُزّل إلاّ من كرامتهم وإنسانيتهم ورغبتهم في الحياة الكريمة.

وإن كل هذه التصريحات الاحتلالية المنتحرة تدل علي روح وتوجهات وعقلية المجتمع الإسرائيلي اليميني الشرس.

إن سياسات دولة الاحتلال وممارساتها الفاشية، وإعادة إنتاجها كل أشكال القمع عبر التاريخ، علي فلسطين وشعبها، منذ عقود ثقيلة، واستمرارها في إجراءاتها التي تتنافي والقوانين الدولية والشرائع والمبادئ الإنسانية، يجعلها دولةً فوق القانون والبشر، مثلما يجعل العالم عاجزاً، يفتقد القدرة الأخلاقية علي حماية الإنسان ومنجزاته، وبالتحديد هنا في فلسطين، الأمر الذي يستدعي هَبّةً دولية تشكّل قوة دفعٍ خارجية تجبر الجزَّارين الذين يقودون كيان الاحتلال علي التراجع عن فظائعهم ومذابحهم التي طالت الشجر والجدران والطيور والأرحام.

ولعل أبناء أمتنا العربية والإسلامية مطالبون أكثر من غيرهم بالتحرك السريع لنصرة أشقائهم وشقيقاتهم الذين يذوون في الباستيلات المرعبة، من خلال الاحتجاج والعمل علي إيجاد الآليات القادرة علي إيقاف غوائل المتطرفين اليهود الذين يولغون في الدم واللحم والأعراض.

أما هنا، في فلسطين، فإن شعبنا المرابط المذبوح، والذي يقف صفّاً واحداً خلف نداء الحلوق المشققة وسكاكين الألم والحسرات، يؤكد بصوت واحد، بضرورة أن يواصل المسؤولون نداءهم الحاسم للإفراج عن كافة الأسري والمعتقلين دون تفرقة أو تمييز، بدءاً من الأطفال والنساء، مروراً بالمرضي وكبار السن، وانتهاء بأولئك الذين دخلوا عامهم الثامن والعشرين داخل زنازين الموت والانكسار، وأن يكون التضامن مع المعتقلين ومساندة احتجاجاتهم هاجساً يومياً وصوتاً متّصلاً لا ينبتّ حتي يتم تفريغ تلك المقابر من أهلها الأحياء الصابرين.

إن معجزات حركتنا الأسيرة العبقرية البطلة جعلتها في مقدمة القوي الفاعلة التي عملت علي دفع الحراك الوطني الفلسطيني ونفاذه إلي فضاءات الحرية والحياة، وأنه آن الأوان لإغلاق ملف المعتقلين بالإفراج عنهم، ما يعني جعل قضية الأسري علي رأس الأجندة الفلسطينية والعربية والدولية.

أما سجون الاحتلال ومعسكرات اعتقاله ومراكز توقيفه وزنازينه فإنها نموذج بشع فريد يدلل علي وحشية الاحتلال وعقليته التي تسعي لسلب روح الإنسان وإرادته، وتحويله إلي مجرد هيكل عظمي دون أدني مقومات.

ولعل العقلية الاستعمارية الإمبريالية والصهيونية تشرب من منبع مسموم واحد، إذا أن كل معتقل أو سجن هو ذاته جزيرة العقاب كما تصورها فرانز كافكا وعالم الدوس هكسلي في كتابه العالم الجديد والشجاع ، فالعقلية الإمبريالية الصهيونية تعتقد واهمةً أنها تستطيع حمل الإنسان إلي نقطة يتخلّي فيها عن روحه وإرادته وأحلامه وطموحاته.. باستعمال القوة، والعزل، والتعذيب، والقمع، وزرع اليأس والإحباط، وتذويب الإحساس بالتمييز، وقتل الإبداع، وإنهاك الجسد جوعاً ومرضاً وهلعاً وتعريةً.. من أجل إنهاك الروح.

وإن معسكرات الاعتقال الإسرائيلية تشبه، بل تتجاوز، معسكرات تربلنكي وأوشفتس وداخو، والتي أُريد لها أن تكون تقطيراً لكل معسكرات الإمبريالية والنازية السابقة، وتركيزاً لكل تجارب إجهاض الثورات والشعوب. غير أن المعتقلين الأسري الفلسطينيين والعرب الأشاوس استطاعوا أن يجعلوا هذه المدافن والباستيلات أكاديميات للوعي والتماسك والإشعاع.. وكلنا يقينٌ وإيمان بأن معركة الحركة الأسيرة التي تجوع ولا تركع، ستشقّ باب الحرية لمعتقلي الحرية.. وإنهم لمنتصرون. - القدس العربي -