كثيرون تحدثوا عن نافذة الفرص المفتوحة، وما على الشعب الفلسطيني الا اغتنامها. قالوا ان العام 2005 هو عام الفرص الكبرى، ومن فرط "اخلاصهم" للشعب الفلسطيني فقد تمنوا على القيادة الفلسطينية بأن لا تضيع هذه الفرصة الجديدة "كما أضاعت فرص الأمس" وعروضها السخية جداً. الرئيس بوش كان من أقوى وأسخى العارضين حين قال: "انني سأنجح خلال ولايتي الحالية بتحقيق السلام، اعرف ان ذلك ممكن.. وانا متأكد".. واضاف سأكرس الكثير من الوقت والتفكير الخلاق كي احقق السلام بين اسرائيل والفلسطينيين.

والعروض جاءت من اسرائيل ايضاً، فالجنرال الآخذ بالاعتدال منحنا اجازة لمدة 72 ساعة قبل واثناء وبعد الانتخابات، اجازة من دون احتلال، من دون حواجز داخل التجمعات السكنية، وفيما بينها، ولكن وفي حالة تلقي الجنرال انذاراً ساخناً، فانه سيقطع الاجازة ويهاجم بلا رحمة، ولم ينس اعطاء القادة الميدانيين حق النقض على ازالة بعض الحواجز لاسباب أمنية خالصة. وقدمت اسرائيل تنازلاً، ربما مؤلماً في نظر البعض، وهو الافراج عن 120 معتقلاً سياسياً شارفت مدة سجنهم على الانتهاء، والافراج عن 50 عاملاً نجحوا في اختراق جدار الفصل العنصري بحثاً عن لقمة الخبز. وكان السيد بيريس اكثر سخاء، وتفنناً في بيع الاحلام الوردية للعالم على شرف الشعب الفلسطيني، فهو سيقدم ميناءً ومطاراً، وسكة حديد تربط الضفة بالقطاع، وهو لن يسمح بموت الفلسطينيين جوعاً، وسيسمح لهم بالصيد والزراعة واستخدام المياه وكل هذا الكرم "لصحيفة الفيغارو الفرنسية" فقط لا غير.

يذكر ان السيد بيريس نجح في السابق باقناع العديد من دول العالم وفئات واسعة من الرأي العام العالمي، ان القضية الفلسطينية قد اصبحت اثراً بعد عين، وحلت بشكل ناجز ونهائي بمجرد التوقيع على اتفاقات اوسلو، وبجهود بيريس الدعاوية والخيالية قطفت اسرائيل ثمار السلام الطيبة.

والدول المانحة وضعت بدورها مخططاً لدعم الشعب الفلسطيني بقيمة 4 مليارات دولار وقد يصل لـ8 مليارات.

وعود وعهود عادت لتغمر الشعب الفلسطيني، حول السلام والحل السياسي. من دون تحديد طبيعة السلام والحل، ومن دون البت الكلامي في قضية جوهرية. هل سيخلص الشعب الفلسطيني من الاحتلال الكولونيالي الاسرائيلي؟ هل تتراجع اسرائيل عن اطماعها الكولونيالية؟ هل يعطى الشعب الفلسطيني فرصة حقيقية واحدة لتقرير مصيره بنفسه؟ هل يستطيع المجتمع الدولي ان يقنع اسرائيل بالحسنى والمعروف احترام القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية في كل ما يتصل بالقضية الفلسطينية؟ ان الجواب على السؤال الجوهري هل سيبقى الاحتلال أم سيغرب، هو الذي يحدد فيما اذا كان المجتمع الدولي جاداً في مسعاه السلامي الجديد أم لا.

سيقولون رداً على ذلك، ان تحقيق السلام يتطلب وقفاً "للعنف" والمقاومة، وانتخابات نزيهة، ومكافحة الفساد، وممارسة الشفافية، ووقف التحريض، وتعديل المناهج، وسحب الاسلحة، لنفترض ان الطرف الفلسطيني التزم ببنود الاجندة المطلوبة وطبقها عن ظهر قلب، وهذا الافتراض محتمل وممكن اذا كان الوعد أو التعهد الدولي جاداً فعلاً. رغم وجود سابقة غريبة، كأن يضع المحتل والمعتدي شروطاً على الشعب المحتل "الضحية"، بدلاً من الاعتذار للضحية وتعويضها عن كل الخسائر والمعاناة والويلات التي سببها الاحتلال خلال العقود السابقة.

اذا التزم الشعب الفلسطيني بالاستحقاقات المطلوبة منه في خارطة الطريق فهل هذا يعني ان اسرائيل ستلتزم هي الاخرى بالاستحقاقات المطلوبة منها؟ وهل ستطالب الولايات المتحدة باعتبارها الطرف الدولي النافذ، اسرائيل باحترام وتطبيق بنود الخارطة بشكل متزامن.

هناك العديد من المواقف والمقدمات والممارسات تقول عكس ذلك. فالولايات المتحدة تراجعت عن خارطة الطريق لمصلحة خطة الفصل الاسرائيلية.

وتراجعت عن معارضتها لبناء جدار الفصل العنصري لمصلحة تعديل جزئي في مساره. والولايات المتحدة التزمت بالموقف الاسرائيلي- نسخة شارونية- بقضايا التفاوض للحل الدائم، كالقدس واللاجئين والمستعمرات، والحدود. فعن أي سلام، وأية دولة تتحدث الولايات المتحدة اذاً؟؟ يقول الرئيس بوش المتأكد من تحقيق "السلام": لقد فهم شارون الامر، ومن المهم ان يفهم الفلسطينيون بأن السلام لا يتحقق بالكلام وانما بالعمل!! فماذا فهم شارون وما هي افعاله التي نالت اعجاب بوش؟ تشير افتتاحية "هآرتس" الصادرة باسم هيئة التحرير يوم 71/21 الى تقارير حركة السلام الآن التي رصدت نشاطاً استيطانياً حثيثاً في الضفة الغربية في محاولة لاقرار حقائق جديدة على الارض. وتضيف ان حكومة شارون تحاول رسم خارطة جديدة مزروعة بنقاط استيطانية قبل ان يأتي الاميركيون الى المنطقة. وتقول ان صمت قادة المستوطنين مؤخراً يطرح احتمال اطلاق وعود لهم بتعزيز الاستيطان في الضفة. واستعرضت الافتتاحية رد الدولة الى محكمة العدل العليا ضد اقامة مستوطنة جديدة: "ان خطة خارطة الطريق التي صادقت عليها الحكومة وتعهدت بموجبها بعدم اقامة اية مستوطنة اخرى لا تلزم الدولة من الناحية القانونية". وكان فايسغلاس قد تعهد الى كوندوليزا رايس قبل ثمانية اشهر بأن تبذل الحكومة كل الجهود في الايام القريبة المقبلة لتعريف حدود البناء للمستوطنات في "يهودا والسامرة"، وما زالت الجهود الاسرائيلية تبذل لنشر وتوسيع الاستيطان، وقد تحولت الايام القليلة الى شهور او ثلثي عام وما زال العمل مستمراً!!

وقبل ذلك تعهدت حكومة شارون بازالة )100( بؤرة استيطانية، وكانت الازالة تعني تزويد البؤر بالكهرباء وربطها ببنية تحتية وسكان جدد.

للسلام معنى واحد هو انهاء الاحتلال، لكن الاحتلال يتعزز كل يوم بالاستيطان وبجدار الفصل العنصري وبحرب مدمرة ضد بنية المجتمع، وباذلال قل نظيره لشعب كامل. وهذا يجعل أي حديث عن السلام بمعزل عن وقف جدي لاجراءات الاحتلال ولسياسة وثقافة الاحتلال بلا معنى.

واسرائيل لا تكتفي بالافعال، بل تحدد سياستها بالأقوال أيضاً: قال فايسغلاس لقادة المستوطنين "بعد ان يترك اليهودي الاخير غوش قطيف فلن تعود هذه الصورة مرة اخرى ابداً". وتحدث قادة اسرائيل في مؤتمر هرتسيليا عن اتفاقات مرحلية طويلة الأمد، والكتل الاستيطانية التي ستبقى في حوزة اسرائيل الى الابد، وعن إبطال القنبلة السكانية الموقوتة. والتزموا جميعاً بسياسة التوسع الكولونيالي والابارتهايد. "لقد فهموا الامر" ووفروا البضاعة، "ومن المهم أن يفهم الفلسطينيون" كما يقول الرئيس بوش. وأن نفهم يعني ان لا نشكل غطاء لمحاولات تثبيت الاحتلال تحت غطاء فرصة السلام الجديدة. وهذا لا يعني عدم اعطاء المجتمع الدولي فرصة لانهاء الاحتلال. لا نريد ان يتكرر ما حدث العام 1994 وما بعده، لا نريد ان يتضاعف الاستيطان، مقابل دعم مالي للشعب الفلسطيني. لا نريد ولا نؤيد علاقات عربية مع اسرائيل بمعزل عن حل القضية الفلسطينية. ولا سلام مع بقاء الاحتلال.