قبيل زيارة رئيس الوزراء البريطاني لواشنطن، بعد ايام من اعادة انتخاب جورج بوش لولاية ثانية، انطلقت مصادر 10 داونينغ ستريت في ثرثرة طويلة صوّرت تلك الزيارة كأنها الحد الفاصل بين سياستين: تلك التي انزلق فيها توني بلير وراء التطرف الاميركي وانتهى غير مسيطر على اي من خياراتها، وتلك التي يعتزم اجتذاب الرئيس الاميركي اليها في السنوات المقبلة، خصوصاً خصوصاً في ما يتعلق بالشرق الاوسط.

كان بلير ولا يزال، يعتقد ان العمل لاحياء عملية السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين يهدئ نقمة الغاضبين على حرب العراق ولا سيما داخل حزبه الحاكم. ولعله محق في ذلك، نظرياً على الاقل، الا انه حاول ويحاول الايحاء بأنه قادر على اختراق التصلّب البوشي ـ الشاروني، متجاهلاً ان الثنائي الجهنمي اكثر ميلاً الى استخدامه منه الى اعطائه اي دور او رصيد في هذه العملية.

وفي المؤتمر الصحافي الشهير، يوم دفن الرئيس الفلسطيني الراحل، كان واضحاً ان بوش لم يول فكرة المؤتمر الدولي التي اقترحها بلير سوى الشك والحذر، من دون ان يعدمها تماماً. واستمرت لندن تتحدث عن هذا المؤتمر، بل اقترحت له مواعيد بدت مبكرة للعديد من الخبراء. ومعروف ان الوصفة المناسبة لمؤتمر فاشل ان يُعقد في ظروف غير ناضجة، فيكون مجرد انعقاده انجازه الوحيد. وما لبث بوش ان اعطى اخيراً مباركته لهذا المؤتمر، من دون ان يتخلى عن الحذر، حتى اذا فشل لا يتحمل هو المسؤولية وانما حليفه بلير. ولا يستبعد بوش احتمال ان يصنع سلاماً في الشرق الاوسط، بل انه يغازل الامر سراً لعله يدخله التاريخ، الا انه يريد ان يفعل ذلك بشروطه، اي بشروط اسرائيل، ومن دون مشاركة بلير.

الفكرة الاساسية للمؤتمر، كما امكن التقاطها وفهمها من خلال التصريحات البليرية نصف الغامضة نصف الواضحة، تأخذ في الاعتبار دروس السنوات الشارونية السوداء وترى ان هناك جهداً دولياً مطلوباً لاعادة اطلاق المفاوضات، استناداً الى التصور الشامل الذي توفره «خريطة الطريق»، اي انها تعترف بالجمود، وبأن طرفي الصراع مسؤولان عن هذا الجمود، وبالتالي فان اي تحرك جديد يتطلب تغييراً من جانب الطرفين اولاً واخيراً. وكانت الفكرة طرحت قبل وفاة ياسر عرفات، وها هي الوفاة تعطيها زخماً «مفاجئاً» و«ايجابياً». لكن لاسرائيل رأياً آخر بوجود عرفات وفي غيابه.

عشية رحلة بلير الى اسرائيل كانت فكرته للمؤتمر الدولي قد صودرت وهُشّمت وتغيّرت. شارون لا يسمح له بـ«التدخل» في الشأن الاميركي ـ الاسرائيلي، ولا يجيز له عقد «مؤتمر دولي» ـ كأنه «مدريد» آخر ـ لإحياء عملية سلام كرّس زعيم ليكود كل جهده للاجهاز عليها. حتى ان شارون هو من صاغ المهمة المقبولة والمفترضة لـ«المؤتمر»، وهي «مساعدة الفلسطينيين في الاصلاحات واقامة مؤسسات ديموقراطية وللتحول الى شركاء حقيقيين في السلام». هذا ما تفوّه به بلير امس، في حضور شارون الذي لم يبخل عليه بالقول ان المؤتمر المقترح «مهم للغاية»، بل انه مهم جداً الى حد ان اسرائيل لا ترغب في المشاركة فيه. في المقابل كال بلير الثناء والتقدير لـ«خطة الفصل» في غزة، ثم قدم الى مضيفه مجرم الحرب الهدية التي لا يريد سواها حين وافقه على ان تطبيق «خريطة الطريق» لا بد ان يبدأ بـ«وقف الارهاب».

وطالما ان «الارهاب» هنا هو الفلسطيني طبعاً فإن رئيس الوزراء البريطاني لم يقدم اي جديد على الاطلاق، بل لعله قتل بنفسه احتمال ان يكون حاملاً مقاربة جديدة للمأزق، فالقول بـ«الارهاب»، وفقاً للمفهوم الشاروني، لا يعني سوى الاحتقار للشعب الفلسطيني، ولا يعني سوى التأييد للاحتلال ولاستمراره. وهكذا، فان بلير الجديد لم يكن سوى خدعة اخرى. لا شك ان الفلسطينيين بحاجة الى مساعدة وتأهيل، لكن المساعدة الاولى الحاسمة تتمثل في ان يكف مجرمو الحرب الاسرائيليون عن القتل والتدمير والاذلال والوحشية. فهذه ايضاً ارهاب لا يريد بوش وبلير وسواهما ان يروه على حقيقته. اذا لم تكن هناك مقاربة دولية متوازنة للمرحلة المقبلة، واذا استمر شارون يعربد من دون رادع، فإن كل مؤتمرات بلير ستكون مجرد تغطية للاجرام الاسرائيلي. - الحياة اللندنية -