لماذا فضلت إسرائيل مقاطعة جلسات محكمة العدل الدولية بشأن الجدار؟ السبب الرئيسي أنها ترفض صفة "المتهم" التي تطغى عليها سواء شاركت أم لم تشارك. فهي تجاهلت على الدوام الشرعية الدولية ومؤسساتها, واحتقرت قراراتها ولم تعمل بها, وتوصلت عبر الدعم الأميركي إلى تعطيلها وإحباط فاعليتها.
وفي الوقت الذي نشأ نوع من "لوبي" يضم دولاً من مختلف القارات سيقف ممثلوها بدءاً من اليوم أمام المحكمة في لاهاي للترافع ضد "شرعية" الجدار وتسليط الضوء على المعاناة التي يسببها للشعب الفلسطيني, لم ينشأ في المقابل "لوبي" راغب في الدفاع عن الجدار من أجل إسرائيل. هذا لا يعني أن إسرائيل ستترك الساحة للآخرين, بل انها ستسعى إلى خوض معركة تبرير الجدار في الإعلام الدولي الذي تملك خبرة طويلة في التعامل معه, لكن هذا الإعلام لا يستطيع "بيع" الجدار, ويكفي أن تعرض صوره لتقول كل الحقيقة القاسية والبشعة التي يمثلها. فالرأي العام الدولي لا يرى مثل هذه الجدران إلا بنظرة إزدراء على رغم تفهمه لذرائع "الإرهاب" التي ترفعها إسرائيل, لكن هذا الرأي العام لم يعد مقتنعاً بدوافع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأرض الفلسطينيين وسيطرته على مقدرات اقتصادهم وعيشهم.
لماذا رفض الأميركيون والأوروبيون خطوة اللجوء إلى المحكمة الدولية على رغم أنهم أبدوا معارضتهم لبناء الجدار في مواقف معلنة يفترض أنها تعبر عن آراء حكوماتهم؟ لعل السبب الرئيسي أنها المرة الأولى منذ تبنيهم إسرائيل دون فهم منها في المحافل الدولية, حيث تتعرض فيها "حليفتهم" لتفعيل البعد القانوني ضدها. لكن الوصول إلى هنا يدل خصوصاً إلى عجز الاميركيين والأوروبيين عن ضبط "الحليف" والتفاهم معه, لا في مبادرات العنف والعدوان والاحتلال, ولا في مبادرات السلام, فإسرائيل لا تدافع عن أمنها, بل تدافع عن الاحتلال وعن إدارته وتريد من حلفائها الغربيين إضفاء شرعية كاملة ونهائية على هذا الاحتلال.
اتخذ الاميركيون والأوروبيون مواقف مفادها: لا للجدار, لا للمحكمة الدولية, لا للإرهاب, لا لمقاومة الاحتلال, نعم لحل عبر "خريطة الطريق". لكن عصابة شارون التي سعت إلى تعطيل المحكمة الدولية ولم تفلح, تكمل بناء الجدار وتتأهب لإخراج "خريطة الطريق" من التداول. في كل الأحوال لم يكن مفهوماً الموقف الأوروبي سوى أنه انحياز لإسرائيل, فالذهاب إلى محكمة لاهاي ليس عملاً إرهابياً, وبالتالي فإن تتفيهه يعني الاستمرار في اعتبار جرائم إسرائيل خرقاً للقانون. أما الموقف الاميركي فأصبح معروفاً ومقنناً في سياق إسرائيلي لا يحيد عنه, لكن الحجة العجيبة أن عرض قضية الجدار على المحكمة الدولية, ولو من أجل رأي استشاري, من شأنه أن يسيء إلى جهود تطبيق "خريطة الطريق", تبدو أغرب من الخيال. فأين هذه الجهود, وهل سُمع عنها أي جديد؟ فأميركا منشغلة بالانتخابات, وأوروبا عاجزة, وشارون يبني الجدار ويطرح مبادرات لا علاقة لها بأي توجه سلمي أو حتى تفاوضي.
من شأن الفلسطينيين والعرب أن يبدأوا العمل لما بعد الاحتكام إلى لاهاي. فهذه مجرد خطوة محدودة الأفق والنتائج. الأهم هو أن يبدي العرب جدية في الاعتماد على قوة القوانين الدولية, من دون أن تكون القوة الوحيدة التي يتكلون عليها. فإذا كانت محاربة إسرائيل متعذرة, ومقاومة الاحتلال ممنوعة (في عرف الأميركيين) فإن أضعف الإيمان أن لا يمر يوم من دون أن تشعر إسرائيل بأن جرائمها واحتلالها لم تعد تمثل أي لوم أو إدانة. ولن يكون هناك حل أو بداية حل إلا إذا كان المجتمع الدولي هو الضامن, لذلك تجب العودة إلى تفعيل اتفاقات جنيف التي تحمي المواطنين تحت الاحتلال, ويجب الإصرار على حماية دولية للشعب الفلسطيني. ويجب الاستمرار في رصد سبل محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين. عن - الحياة اللندنية -