على هامش كارثة الفيضان التي هي من نوعية الكوارث الشارونية والصهيونية عموماً في حق الفلسطينيين، مع فارق ان هذه الكارثة التي تتواصل عملية احصاء ضحاياها في زنار الفقر الآسيوي من صنع الطبيعة، بينما تلك الكوارث من صنع أرييل شارون والذين سبقوه في مسلسل القتل والتدمير، لإلغاء هوية شعب بعدما تم اغتصاب وطنه، فإن الشعب الفلسطيني على موعد يوم الاحد المقبل 9 يناير (كانون الثاني) 2005، لكي يسجل في احدى صفحات كتاب الحُكْم في العالم العربي، انه اختار، ووفق الأصول الديمقراطية، من يقوده في المرحلة الانتقالية التي تُراوح بين استنباط دولة له، وبين مواصلة العبث بحقه، من جانب الدولة الأعظم الولايات المتحدة. واذا سارت الامور، وهذا هو المرجَّح، على نحو ما جاءت عليه الانتخابات البلدية يوم الاحد 26 ديسمبر (كانون الاول) الماضي، ولم تقرر جماهير حركة «حماس» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وبقية الفصائل التي لا تزال على اقتناعها، بأن الحل مع الاسرائيليين هو في المزيد من الحرص على البنادق ومعها حديثاً صواريخ القسام، إحراج محمود عباس، فإن هذا الرجل الذي سبق الإجماع الدولي والعربي عليه الإجماع الفلسطيني، بما في ذلك الإجماع من جانب اهل بيته.. أي «حركة فتح»، سيبدأ بالسياسة ما لم يتحقق بالمقاومة والعمليات الإستشهادية، معتمداً في ذلك على ان «الرئيس الخالد ياسر عرفات اوصى بالسلام وسننفذ وصيته»، على حد قوله للناخبين المتحمسين له، وعلى ان القوى الدولية والعربية باتت معه، بعدما كانت خذلته في الماضي، وتركته عرضة لأنياب بعض العرفاتيين، الأمر الذي ادى به الى الانصراف من العمل السياسي.. وكاد يؤدي به الى الاعتزال، لأن خيبة الأمل من الرفاق قبل غيرهم، كانت اكثر من القدرة على التحمل.

وما نقصده بالإحراج، هو أن تصب اصوات «حماس» و«الجبهة الشعبية» واصوات فصائل اخرى بقوة في صناديق الاقتراع، لمصلحة المرشح المنافس الدكتور مصطفى البرغوثي، وفي المقابل لا يكون هنالك اندفاع بالحيوية نفسها من جانب جماهير «فتح»، وبالذات جماهير الجيل الشاب من الحركة، والمصدوم من ان الضغوط تكاثرت من «ديناصورات» الحركة الأم، على المناضل مروان البرغوثي القابع في سجن الاحتلال لكي يسحب ترشيحه، وما ان حدث ذلك حتى تقدَّم الى الميدان البرغوثي الآخر، الدكتور مصطفى ليحاول من خلال وضع كوفية ابو عمار على كتفيه، إرضاء الأطياف الفلسطينية التي اتعبتها انقسامات «فتح» وصراعات اقطابها، ومن دون ان يخطر في باله ان «الحماسيين» سيقفون معه، وان اسرائيل من جانبها ستضفي من خلال ساعات اعتقال عابر له، مسحة نضالية عليه، قد يكون الغرض منها القول للبعض المحزون على حال مروان البرغوثي ما معناه: هذا هو مصطفى بدل مروان ويمكنكم اختياره. وفي حال انصبت الأصوات بكثرة من جهة، وتباطأت جماهير «فتح التسوية العباسية» في الإقبال على صناديق الاقتراع، فإن الذي قد يحدث، هو إلى حد ما مثل الذي حدث في أوكرانيا بين الفيكتورَين: الاول يانوكوفيتش الذي يصر عليه الجار القريب فلاديمير بوتين رئيساً للجمهورية، والثاني يوتشينكو الذي يريده الحليف النائي جورج بوش الإبن، مع فارق أن الادوار مختلفة سياسياً هنا، حيث ان مصطفى البرغوثي من حيث التصنيف هو فيكتور يوتشينكو، وان محمود عباس هو فيكتور يانوكوفيتش. وانصباب الأصوات من جانب وتباطؤها من جانب آخر هو ما نقصده بالإحراج، ذلك انه في هذه الحال لا تعود المسألة مجدية. وزيادة في التوضيح نقول انه اذا حدث على سبيل الإفتراض تقارُب في النتيجة، فهذا يعني ان التسوية محفوفة بالانتكاسات في حال ان الفائز ولو بنسبة بسيطة هو محمود عباس.. هذا اذا لم تأخذ اللعبة السياسية الانتخابية مجراها ويتزايد الحديث حول خروقات واحتسابات خاطئة للأصوات. لكننا ونحن نقول ذلك، لا نستبعد على الإطلاق مسألة ان يستعمل الفلسطينيون كل مقتضيات الفطنة السياسية، وبحيث يجعل هؤلاء من العملية الانتخابية لقيادتهم الجديدة ورقة ضغط على الادارة الاميركية والمجتمع الدولي.. اي بما معناه استعمال الإحراج لإبلاغ من يهمهم الأمر بأن نصف او ما يقرب هذه النسبة من غير المؤيدين انتخاب محمود عباس، وفي الوقت نفسه اختيار منافسه مصطفى البرغوثي مؤشر الى ان ما يطمح اليه مرشح الإجماع الدولي والعربي، مع نسبة من الإجماع الفلسطيني، في شأن إنهاء عسكرة الإنتفاضة، ليس فقط لن يحدث، وإنما الذي ربما تنتهي اليه الأمور هو استمرار عسكرة الانتفاضة، واستقطاب المزيد من القبول بها، بما يعني المباشرة بعسكرة مجتمع التسوية.. او انسحاب بعض رموزه من الحياة السياسية عموماً.

في انتظار الأحد الفلسطيني الذي ستشكل حصيلته الانتخابية محطة حاسمة في تاريخ القضية لجهة حدوث نقلة في اتجاه التسوية اذا حظي محمود عباس وعلى اساس الانتخاب الديمقراطي بنسبة اصوات، مثل التي يحصل عليها المرشحون للرئاسة في العالم العربي، على اساس الانتخاب الجاهزة نتائجه سلفاً، من المناسب تسجيل بعض المؤشرات والمحطات التي ستسبق ذلك الأحد كونها تحمل في طياتها تفسيرات ومواقف تتصل مباشرة بجوهر القضية.

لمجرد مواراة عرفات الثرى، بدأ الانفتاح الدولي والعربي على محمود عباس، الذي تم اختياره خليفة لعرفات في رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعلى اساس انه عضو لجنة مركزية في حركة «فتح» منذ التأسيس عام 1964 وأمين سر اللجنة التنفيذية منذ العام 1996. وكان اول الوافدين وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول وتبعه وزير خارجية بريطانيا جاك سترو الذي نقل الى محمود عباس يوم الخميس 25 نوفمبر (تشرين الثاني) موافقه اسرائيل على الانتخابات الرئاسية. وفي ضوء الترحيب الدولي به قررت الكويت فتح صفحة عباسية مع الفلسطينيين، وكان يوم الاحد 12 ديسمبر (كانون الاول) مشهوداً في هذا الصدد حيث ان محمود عباس زار الكويت وقد استقبلته بعبارة رئيس حكومتها ورجلها القوي الشيخ صباح الاحمد الصباح: «لا نتحدث عن اعتذار. بالعكس، نحن نرحب بالأخ محمود عباس ونعتبر أن الموضوع انتهى». وهذا القول جعل محمود عباس يرد عليه في اليوم التالي بالقول: «نعم انني باسم شعب فلسطين أعتذر من الكويت». وهذه الزيارة وما رافقها ومِنْ قبلها زيارة سورية ثم لبنان وفيهما طُويت صفحة الماضي العرفاتي لتبدأ صفحة الحاضر العباسي، التي تمهد للتعامل على اساس دولة قائمة مع دولة فلسطينية يؤمل قيامها، اضفت على الساحة الفلسطينية حيوية ملحوظة تجلت في الاختبار الاول لمراكز القوى حيث ان الانتخابات البلدية اسفرت عن فوز «فتح» بحوالى الثلثين مقابل فوز «حماس» بنسبة تقل عن الثلث.

مسألة واحدة في استطاعتها تدعيم وضع محمود عباس، وبحيث يأتي فوزه مبهراً، وبمثل فوز خاتمي في ايران، شرط ان يكون هنالك إسراع في توظيف الادارة البوشية لفوز عباس، كي لا يتكرر ما سبق ان فعلته مع خاتمي الذي أحرجَتْه، فكاد «الآيات» يُخرجونه لولا صلابة التفاف شعبي حوله قائم على التفهم وتقدير حْسن النية. وهذه المسألة هي في استباق الأحد الفلسطيني الكبير بموقف اميركي يتسم بالصدق واجراءات شارونية تتصف بالمرونة. ونقول ذلك على اساس ان كلام بوش بأنه «من الممكن قيام دولة فلسطينية بحلول نهاية ولايتي الثانية عام 2009» والذي صدر عنه خلال مؤتمر صحافي يوم الجمعة 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عقده مع حليفه وصديقه رئيس الحكومة البريطانية طوني بلير، الذي كان اول زواره المهنئين بالفوز بولاية رئاسية ثانية، شكَّل ما يشبه الصدمة في النفوس الفلسطينية والعربية عموماً، وكذلك في نفوس بعض اهل القرار الدولي، لأن ذلك معناه تأجيل البت في أمر كان من المفترض حسمه في الولاية الرئاسية البوشية الاولى. ويبدو أن هذا الحذر او الصدمة، كان وراء التطمين اللاحق من جانب الرئيس بوش عندما قال للرئيس الباكستاني برويز مشرَّف، الذي كان اول رئيس من بين المسلمين والعرب يطأ البيت الابيض للتهنئة بالفوز: «أكَّدتُ للرئيس مشرَّف ان ثمة فرصة متاحة للعمل من اجل انشاء دولة فلسطينية وإحلال السلام في الشرق الاوسط وأبلغته ان ذلك سيكون من اولويات ادارتي وان الهدف هو دولتان تعيشان جنباً الى جنب...».

هل يفعل ذلك الرئيس بوش وبذلك يحقق الى جانب انجاز السلام السوداني بين جنرالي السودان عمر البشير وجون قرنق ما يعوِّضه عثرات الأحوال العراقية، حيث الانتخابات عرضة لكل انواع المفاجآت، والتي قد تتسبب في صدمة للولاية الثانية للرئيس بوش، الذي يعيش اهوال صدمات الولاية الاولى؟

عسى ولعل، خصوصاً ان كارثة الفيضان الآسيوي لم تترك فقط ضحايا بعشرات الألوف من بينهم اوروبيون بعشرات المئات، ودماراً بمثل التدمير الاميركي في هيروشيما ثم في العراق، والتدمير الشاروني في فلسطين... وإنما طرحت برسم اهل القرار، خصوصاً من كان بينهم عنيداً وشغوفاً بالهيمنة، ومسكوناً بالإحساس بالعظمة، حقيقة اساسية، وهي انه ما من يد إلاَّ يد الله فوقها. وهذا هو الفيضان سلاح من صنع الطبيعة، اقوى من اي سلاح من صنع البشر. كما انه عبرة... برسم من عليه ان يعتبر. - الشرق الأوسط -