يحاول محمود عباس انجاز مهمة مركّبة و... صعبة. فهو يعمل، من جهة، على تمثيل النضال الفلسطيني وجعله تراثاً تُستمَد منها طاقة على الفعل والتأثير ويعمل، من جهة أخرى، على تجاوز ذاك النضال والاعتراف بحقائق ووقائع لم يعد يخدمها المكوث في التراث السياسي.

ذاك ان تمثيل النضال المذكور مسألة لا بد منها، ليس فقط لأن أبو مازن ابن الحركة الوطنية الفلسطينية وسليلها، ونتاج قواها ومؤسساتها. بل أيضاً لأن تلك الحركة جسّدت قضية مُحقة تقليدياً وراهناً، ولأن الشعوب، كل الشعوب، لا يسعها أن تفاوض خصومها، وتساومهم، وتبرم اتفاقات قابلة للحياة معهم، من دون أن يترافق ذلك مع الإقرار بقضاياها وبالحق الذي تنطوي عليه تلك القضايا. وهكذا، يتأسس تراكم من الشرعية لا يستطيع أي قائد فلسطيني، ولا يجوز، أن يخلّفه وراءه كأنه جثة ميتة لا يريد أحد التقاطها الا بأطراف الأصابع.

وبالمعنى هذا، ينعطف أبو مازن عن وجهة يأخذ بها بعض السياسيين والمثقفين العرب حالياً، مفادها التقدم من العالم بالاعتذار وحده، ومطالبة الآخرين الأقوياء بالصفح فقط. ذاك ان الفلسطينيين كانوا، ولا يزالون، ضحايا، وهذا ليس فيه ما يستدعي الاعتذار. وهم، تالياً، لا تزال لديهم حقوق ينبغي استردادها، وهو ما لا يستدعي جلد النفس ومطالبة العالم بمنح الغفران.

لكن تاريخ النضال الفلسطيني، في المقابل، ما عاد يوفر الكثير لقضية الفلسطينيين وحقهم. وإذا كانت «عسكرة الانتفاضة» الترجمة الممكنة والراهنة لاستئناف ذاك التاريخ، فإن بؤس المصير هو ما يلوح، وقد لاح مراراً، في الأفق. يندرج في التقويم هذا سجل مديد تضافر لإحداثه توازن القوى، وطبيعة الثقافة السياسية، وعدم إدراك معطيات المنطقة والعالم، وشيء من سوء الحظ.

وقد جُرّب هذا النضال، ولم يكن الاتحاد السوفياتي قد سقط بعد، في العمل من الخارجين الأردني واللبناني. كذلك جُرّب من الداخل بالطريقة الانتحارية التي استؤنفت بعد 11 أيلول (سبتمبر)، ورغمها، والتي رأيناها في السنوات القليلة الماضية ورأينا ثمارها وبالاً سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً على قضية الفلسطينيين. وهنا ينعطف أبو مازن عن المدرسة التي لا زالت سائدة في التفكير العربي، لدى «الجماهير» والمثقفين قبل الساسة، وقوامها تكرار ما جُرّب قبلاً والنضال ثم النضال ثم النضال وصولاً الى... الفناء.

ويلوح كأن وراء هذا السلوك المركّب وعياً مركباً مفاده، من جهة، ان العدو الاسرائيلي للفلسطينيين لا يملك كماليات السخاء، وأنه مصاب بهوس الأمن على النحو الذي يوجب استخدام كل الأوراق ضده إلا ورقة التخويف. فكيف وأن توازن القوى البالغ الاختلال يجعله الأقدر على أنزال التخويف بعدوه الفلسطيني؟

وفي آخر المطاف، تستقر المهمة المركّبة هذه عند الانتفاضة الأولى بوصفها أعلى درجات التعبير عن الوطنية الفلسطينية وحقوقها على نحو يقود الى السياسة، بدليل مؤتمر مدريد الذي تلاها، ومن ثم مؤتمر أوسلو. كما تستقر، من الجهة المقابلة، عند رفض «الصواريخ» العديمة الجدوى، على ما فعل أبو مازن، بوصفها رمزاً ضاراً على نهج ضار.

وإذا كانت المهمة صعبة، مثل كل مهمة مركّبة ومتناقضة ظاهرياً، يبقى أن نتفاءل بإشارات أخذت تتكاثر في الآونة الأخيرة، وسمّى دنيس روس بعضها «تغيراً درامياً في المزاج الفلسطيني»! - الحياة اللندنية -