جرت مياه كثيرة في موضوع الاصلاح السياسي والاداري والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والأمني لمؤسسات السلطة الوطنية. وتم تناول الموضوع في محطات ولحظات سياسية وأمنية عديدة منذ اتفاقيات أوسلو وحتي يوم الدنيا المعاش. وتعالت الأصوات أكثر فأكثر في زمن انتفاضة الأقصي المباركة حيث بات الوضع السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني اكثر بؤساً نتيجة حالة الفلتان والتسيب والفوضي غير المسبوقة في الجانب الأمني والمرتبط ارتباطاً وثيقاً بكل الحالة السياسية الفلسطينية.

واستباقاً لأي استنتاج متسرع وغير مدقق في التطورات الدراماتيكية الجارية، فإن المرء يخطئ خطأً فادحاً اذا ما علّق غياب القانون وانهيار السلطة وأجهزتها علي شماعة الاحتلال الاسرائيلي. دون ان يعني ذلك تغييب هذا الدور أو انتفاء آثاره علي الحالة الفلسطينية بشكل عام.

غير ان المسؤولية الوطنية والأخلاقية تحتم علي المراقب السياسي ان ينحاز الي الحقيقة، الي الاستنتاج الأكثر قبولاً واقتراناً بالواقع، والذي يشير بوضوح وبموضوعية شديدة الي أن الخلل والخراب يكمنان في القيادة السياسية والأمنية الفلسطينية وأي عوامل أخري لا تمثل أكثر من عوامل مساعدة.

كيف؟ ولماذا يجري تحميل القيادة السياسية وزر ما جري ويجري في الساحة الفلسطينية؟ الا يوجد مبالغة وتطير في الاستنتاج؟ وأين مسؤولية ودور القوي الوطنية والاسلامية الأخري في الساحة؟ وهل الاحتلال الاسرائيلي معفي من المسؤولية؟ واذا كانت هناك مسؤولية تطال الاحتلال فأين هي؟

وقبل الولوج الي جادة الاجابة، لابد من الاشارة الي سلسلة من الأحداث الأخيرة ذات الصلة بموضوع التداعي والتفكك لبنيان المؤسسة الرسمية الفلسطينية، حتي يكون الحديث واقعيا ويستند الي معطيات ملموسة، ولكي يشكل أساسا للحوار في اللحظة الراهنة، لا سيما ان البعض ممن هم في موقع القرار، يسعي دائماً للقفز عن مثالب وعيوب المحطات السابقة، ويعتبر أنه تجاوز تلك الأخطاء....؟!.

اختطاف اللواء الجبالي: في الأيام القليلة الماضية شهدت الساحة الفلسطينية جملة من التطورات والتداعيات غير الايجابية، وذات الابعاد الخطيرة، والتي تعكس مستوي التراجع والتدهور الذي بلغته المؤسسة الرسمية الفلسطينية. ومن بين هذه التطورات:

اولاً: اختطاف اللواء غازي الجبالي، قائد قوات الشرطة الفلسطينية، أكبر قوة فلسطينية علي الأرض يوم الجمعة الماضي الموافق 16/7/2004 علي يد مجموعة فلسطينية تطلق علي نفسها كتائب شهداء جنين... القيادة العامة للجان المقاومة الشعبية.. .

ثانياً: اختطاف العقيد خالد ابو العلا، قائد الارتباط العسكري في المنطقة الجنوبية من محافظات غزة. الذي قامت مجموعة فتحاوية تطلق علي نفسها مجموعة أبو الريش في نفس اليوم، أي الجمعة الموافق 16/7، باختطافه عند عودته من مكان عمله في غزة.

ثالثاً: اختطاف خمسة اشخاص (امرأتان وثلاثة رجال) من الأصدقاء الفرنسيين، الذين يعملون في المنظمات الفرنسية الأهلية المساندة لنضال الشعب الفلسطيني من قبل ذات المجموعة السابقة، أي مجموعة ابو الريش، ذات النفوذ القوي في منطقة خانيونس تحديداً والجنوب عموماً.

وهناك العديد من حالات التسيب والفوضي الأمنية التي جرت، وتجري يومياً في وضح النهار بين ممثلي الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بعضهم ضد بعض، التطاول وانتهاك حرمة المواطنين علي مساحة الوطن الفلسطيني المحتل والمقسم... والكثير من حالات التسيب والانتهاكات الفاضحة والمخجلة في آن، لايعلن عنها، وإن تم الاعلان ففي حدود ضيقة خشية تفشي الفضيحة وانكشاف المستور من عورة السلطة الوطنية وقيادتها السياسية، التي لم تعد خافية علي أحد، ولم يعد مقبولاً، السكوت عنها او مداراتها.

استقالة قادة الأجهزة الأمنية: في ضوء ما تقدم، يكون المرء مخطئاً، اذا جافي الحقيقة، ولم يسمِ الأشياء بمسمياتها، او في حال اعتمد سياسة الدوران في حلقة مفرغة بعيداً عن الاقتراب من العناصر والهيئات المكونة والمسؤولة عن الأزمة العميقة التي تعيشها الساحة وخاصة أقطاب القيادة السياسية والحزب الحاكم حركة فتح خشية من التبعات الناجمة عن تلك المعالجة. خاصة ان الساحة باتت متاعاً مباحا لكل من يستطيع ان يؤكد حضوره بالقوة في هذه المدينة أو تلك القرية أو ذاك المخيم، وللأسف الشديد، ان كل الذين تجرأوا علي التمرد في وجه السلطة الفلسطينية؛ هم أبناء حركة فتح دون سواها من فصائل العمل الوطني والاسلامي، بغض النظر عن المسميات التي يطلقونها علي انفسهم.

وهذا الوضع يذكر المرء بما كان عليه الحال في الساحة اللبنانية قبل خروج الثورة الفلسطينية من لبنان في ايلول (سبتمبر) 1982 بعد الاجتياح الاسرائيلي في حزيران (يونيو) من ذات العام، حيث استطاعت القيادة الرسمية الفلسطينية، أي قيادة حركة فتح خلق مراكز قوي لبنانية في الأحياء والحارات والمدن اللبنانية للاستقواء بتلك الفتوات علي الحكومة اللبنانية، وايضا علي الحركة الوطنية اللبنانية، ولم تكن نتائج تلك السياسة صحيحة، ولم تخدم المشروع الوطني الفلسطيني، وكادت ان تضرب التلاحم الوطني اللبناني الفلسطيني في أكثر من محطة بسبب الحماقات التي ارتكبتها تلك الفتوات .... !.

والمتتبع لسياق تطور الأحداث في الساحة الفلسطينية وخاصة في محافظات غزة التي تحظي فيها السلطة الوطنية بقدر وحيز كبيرين من الحضور، وتتمتع أجهزتها الأمنية بالقدرة علي العمل بكامل طاقتها أو بنسبة عالية من طاقتها، يجد ان شرط الفعل الأمني قائم، رغم ما قامت به قوات الاحتلال الاسرائيلي من تدمير منهجي ومنظم للبنية التحتية وخاصة مقرات أجهزة الشرطة والأمن الوطني العام.

لكن هذا الشرط أمسي منذ فترة غير بسيطة غير موجود وعاجزا عن القيام بالمهام الموكلة له نتيجة تفشي مظاهر التسيب والفلتان الأمني، وغياب القانون وانتفاء دور المؤسسة، وضرب ركائز المجتمع المدني، وتنامي ظاهرة الولاءات الشخصية، وانتشار الجزر الأمنية الخاصة وتكريس دور قبضايات الحارات والأحياء والمدن من قبل ممثلي الحزب الحاكم والقيادة الرسمية. وفي ذات الوقت استشراء الافساد والفساد المالي والاقتصادي والأمني.... الخ.

وفي سياق الحالة التي توجت بسلسلة الاختطافات المذكورة آنفاً، وغياب المعالجة الحقيقية، وعدم الالتفات لنداء العقل والمصلحة الوطنية واستمراء سياسة التقوقع علي الذات، والمماطلة والتسويف في ولوج سياسة الاصلاح للمؤسسة وتطبيق القانون، وابقاء القديم علي قديمه، جاءت استقالة كل من اللواء أمين الهندي رئيس جهاز المخابرات العامة، والعميد رشيد ابو شباك بتقديم استقالتيهما من منصبيهما، وبغض النظر عن الملابسات المحيطة بالاستقالة، فإن استقالتيهما تعكسان عمق الأزمة الأمنية التي تعيشها السلطة الوطنية، ودليل علي عجز القيادة السياسية وخاصة الرئاسة الأولي علي اتخاذ القرارات الصائبة والصحيحة في الوقت المناسب، حيث تفيد المصادر المقربة من الرئيس الفلسطيني أنه طلب من القادة المعنيين اتخاذ اجراءات رادعة وفورية ضد المجموعات التي نفذت عمليات الاختطاف؛ في ذات الوقت، اصدر مرسوما رئاسياً باعادة تشكيل الأجهزة وتوحيدها في ثلاثة أجهزة أمنية وتسمية كل من اللواء صائب العاجز، قائداً للشرطة واللواء موسي عرفات لقيادة قوات الأمن الوطني، والأخير تبين أنه ليس محل اجماع او قبول من قبل قادة الأجهزة الأمنية الأخري. والأهم من ذلك ان المرسوم الرئاسي صدر بدون العودة الي مجلس الأمن القومي، او حتي التشاور مع الحكومة العتيدة برئاسة ابوعلاء فضلاً عن عدم العودة لفصائل العمل الوطني والاسلامي، وإن دل هذا علي شيء فإنما يدل علي ان الرئيس ابو عمار، لا يرغب في التعامل مع الأنظمة واللوائح والمؤسسات ويفضل اعتماد منهجه الفردي في فرض القرارات والسياسات التي يراها هو من وجهة نظره أنها صائبة .

كما ان التجربة المعاشة هذه الأيام تؤكد ضرورة التدقيق في الأسماء الواردة في المرسوم، لا سيما ان الأسماء لها مدلولات وصفات تعكس المصداقية في المعالجة او عدمها، اضافة الي ذلك، فإن القرارات والمراسم الرئاسية اذا لم تستند الي آليات عمل واضحة وخطة محددة تعتمد كأساس للمحاكمة والمساءلة وبدون استنادها الي القانون الأساسي الفلسطيني واجماع وطني واسلامي، فإنها تبقي قاصرة عن رؤية، أبعاد ومخاطر ما يجري، وما سيطال الساحة الفلسطينية من تدهور خطير قد يضرب ركائز المؤسسة الرسمية الفلسطينية نواة الدولة المستقبلية، وبالتالي تضرب أسس المشروع الوطني برمته بعيداً عن رغبة هذا القائد او ذاك لأن المسألة لاتكمن في الحسابات الشخصية لهذا المسؤول او ذاك، وانما تستدعي الضرورة الانطلاق من حسابات المصلحة الوطنية اولاً وقبل كل شيء للخروج من الأزمة بأقل الخسائر...

اذا الحل المطلوب للخروج من دوامة الأزمة المستشرية في الساحة الفلسطينية يتطلب التالي: اولا: الموافقة علي استقالة حكومة ابو علاء التي مثلت عنوان الأزمة، ولم تقو علي القيام بمهامها علي الصعد المختلفة، وكانت عنواناً لتكريس المناطقية البغيضة واختيار حكومة جديدة مؤهلة وقادرة علي اجراء انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية في أقرب فرصة ممكنة لا تتجاوز نهاية العام الحالي..

ثانيا: التأكيد علي المرسوم الرئاسي الداعي الي توحيد الأجهزة الأمنية، واعادة النظر في اسماء القادة الأمنيين ووضع اشخاص أكثر قبولا في الشارع الوطني بما يستجيب ومصالح الشعب والقضية والمشروع الوطني، ووضع خطة أمنية واضحة المعالم يمكن علي أساسها محاكمة ومحاسبة ومساءلة القيادات الأمنية بغض النظر عن مواقعهم.

ثالثاً: فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية فصلاً حقيقيا، وليس فصلاً وهمياً كما هو عليه الحال راهناً، ومنح كل سلطة من السلطات الثلاث صلاحياتها الكاملة دون تدخل في شؤونها من الرئاسة الأولي أو من الحكومة. وتطبيق قانون المساءلة والشفافية علي الجميع بدءاً من الرئاسة الأولي وانتهاءً بآخر مواطن فلسطيني.

رابعاً: اعطاء الهيئات القضائية والقانونية ومنذ اللحظة المعاشة الحق في استدعاء ومحاكمة كل القيادات التي اساءت استخدام الصلاحيات الممنوحة لها، والتي مارست الفساد بأبشع اشكاله المالي والاقتصادي والاداري والأمني.. وبتعبير اوضح استقلال القضاء.. ورفع وصاية الرئاسة الأولي عنه.

خامساً: رفع الغطاء عن ممثلي الجزر والكانتونات الأمنية بغض النظر عن مسمياتها وادعاءاتها الوطنية. واعتقال كل المسؤولين عن التسيب والفلتان الأمني في المدن والقري والمخيمات. وعدم الخضوع للابتزازات الفئوية والحزبية. سادساً: توحيد حركة فتح ، حزب السلطة الحاكم في إطار تنظيمي واحد، وقطع الطريق علي كل المستفيدين من حالة التشرذم والانقسام السائدة في الساحة، وإيجاد مرجعية قيادية واحدة علي مستوي المحافظات والمدن والوطن الفلسطيني كله، والانصياع للقانون وعدم المتاجرة بالانتماء الحزبي.

ولعل تجربة الانتخابات الأخيرة التي تمت في محافظات غزة تشكل أساساً صالحاً لهذه العملية، شرط استكمالها علي أسس صحيحة تصب في مسار الإصلاح الفتحاوي المطلوب كمقدمة لإصلاح وطني أعم وأشمل.

سابعاً: البدء الفوري بحوار وطني شامل جاد ومسؤول يعيد الاعتبار للوحدة الوطنية الفلسطينية، الرافعة الأساسية للمشروع الوطني الفلسطيني وتشكيل قيادة وطنية موحدة علي أساس برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي ـ تربوي وأمني. ووضع جميع القوي السياسة الوطنية والإسلامية أمام مسؤولياتهم الوطنية.

ثامنا: التأكيد علي وجود سلطة وطنية واحدة وحمايتها من التبديد والضياع. وتكون بمثابة مرجعية لكل المواطنين والأحزاب والقوي والطبقات والشرائح الاجتماعية.. تعتمد القانون الأساسي كناظم لعمل مؤسساتها وهيئاتها وشخوصها. - القدس العربي -