أصبح من المعيب تماماً، بالنسبة لرئيس الحكومة الفلسطينية، أن يعود عن مناورة الاستقالة، لكي يكافح ضد رغبة المجلس التشريعي، والجماهير الفلسطينية، فيحاول البقاء، ذلك بسبب عجز هذه الحكومة، عن أداء مهمتها المحددة، في البيان الوزاري، الذي نالت علي أساسه، ثقة المؤسسة التشريعية للسلطة. وأصبح من غير الجائز، أن يخرج هذا أو ذاك، علي الفضائيات، لكي يتمني علي الحكومة أن تستمر، بسبب الظروف الصعبة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، لأن هذه الظروف الصعبة، هي بالضبط، سبب الطلب من الرئيس عرفات بأن يقبل استقالة الحكومة، وأن لا تكون سبباً إضافياً في أزمته، وفي ضائقته الخانقة وغير المسبوقة. فإن كان راغباً في النجاة، وفي العودة الي التألق، كعادته، فما عليه إلا أن يعلن حالة طواريء سياسية، وان يشكل حكومة من القوي والفصائل الحية، وذات الحضور الشعبي والكفاحي. وأغلب الظن، أن رئيس الحكومة، أحمد قريع، كان يناور علي خط عرفات، عندما أعلن عن استقالته. فهو يريد صلاحيات للحكومة، لا سيما صلاحيات أمنية، علماً بأن أية صلاحيات لحكومة بهذا التركيب، لا يمكن أن تحل المشكل، بل ستؤدي الي تفاقم الأزمة، لأنها حكومة ذات قاعدة تمثيلية فقيرة، بمعايير القوي الحية علي الأرض، ولأنها تضم فاسدين مؤكدين، لا يختلف اثنان، في السلطة نفسها، علي فسادهم، ولأن رئيسها ضعيف، يتميز بالبراعة في الكواليس، ومُفخخ، وغير ذي صدقية عندما يتحدث علناً. وعلي الرغم من ذلك، كان الأمر، عندما يتصل بشكايتها من ضعف الصلاحيات، مفهوماً، باعتبار أن أي إنسان منصف، ليس في وسعه إلا أن يتفهم أسباب الحكومة الفلسطينية، عندما تتبرم، لأن من حق أي مُسمي، أن يحظي بلم الشمل مع تسميته، ولأن من يتحمل مسؤولية إدارة حياة الناس، ينبغي أن تتاح له، كل الأدوات المتوافرة، لإدارة حياة هؤلاء الناس!
لكن الأمر، عندما يتصل بضعف ممارسة الحكومة، لصلاحياتها المتاحة، لن يكون في وسع المرء، إلا أن يتفهم انتقادات الناس، وشكاياتهم، دون أن يستوعب أسبابها، للتذرع بشيء ناقص، لتبرير شلل زائد. وحتي الآن، يمكن أن يكون الكلام غير ذي معني، أو غير مفيد!
نفهم أن قواعد اللعبة، منذ اوسلو كانت تقتضي، الاستعانة بلاعبيها الأساسيين، الذين لم يتقاعدوا، حتي بعد أن أصبحت أوسلو نفسها ـ كملعب ـ في حال التجريف. فالسلطة التي تأسست علي اوسلو لم تفشل فقط، في تهيئة فريق قوي، لممارسة لعبة الحُكم، بما يتوافق مع تقاليد العمل العام، وأخلاقياته، ومحفزاته السياسية والعقائدية؛ وإنما فشلت كذلك، في الحفاظ علي أسباب الإبقاء علي تشكيلة اللاعبين، في كل النادي، الأمر الذي ينبغي بعده، البحث عن صياغة جديدة للنظام السياسي، حتي مع الالتزام بقواعد اللعبة، من حيث هي تسوية، ذات أولويات مقلوبة: التنفيذ نقداً، والحل بالتقسيط. التطبيق بكل الصدق، وبكل البرهنة علي النوايا الحسنة، دفعة واحدة، لكن الاتفاق نفسه، خطوة خطوة. وبين كل خطوة وخطوة، مسافات تتوجع، وأكاذيب!
هناك مفسرون رديئون، يفهمون من دعوتنا لإعادة صياغة النظام السياسي، أنها مساسٌ بمكانة الرئيس ياسر عرفات، وهذا غير صحيح، لأن الدول التي تحكمها أنظمة عصرية، تفصل بين السلطات، وتحترم المؤسسات، لا يقف علي رأسها طراطير، ولا فاقدو صلاحيات، وإنما رجال دولة، أتاحت لهم أنظمتهم، أن يمارسوا أدوارهم، في مناخ وظيفي مناسب، لا تختلط فيه الموضوعات والصلاحيات، ولا يضطرون فيه للغرق في التفاصيل، ولا يؤخذون في عُجالة، علي الورق، لتنشأ التداعيات، وتتكاثر، أو تتناسل!
منذ الحكومة العباسية، وحتي الحكومة العلائية، تحت سقف أوسلو وأخواتها (وآخر العنقود، منهن، خارطة الطريق) وقع التعارض بين فرضيتيْن: استحداث منصب رئيس الحكومة، وما يمثله هذا الاستحداث، من معاني التغيير في هيكلية النظام السياسي، ونشوء الفجوة بين مؤسستي الرئاسة، والحكومة. المؤسسة الأولي تضغط، لكي لا تفارق تفصيلات ومحتشدات فحواها المألوف، والثانية تضغط، لكي يصبح التغيير تغييراً، ولكي يصبح الاسم علي مُسمّاه التام. وربما لم تكن الفجوة ستتسع، لو أن المحتلين، لم يتعمدوا إحكام الحصار علي الرئيس عرفات، قاصدين أن تظل تصورات الفلسطينيين، وعزائمهم لتطوير النظام السياسي، مسجونة في المقاطعة باعتبار أن الظروف استثنائية، وغير طبيعية، وباعتبار أن للسجن، إفرازاته النفسية، والعاطفية، وتهيؤاته الكثيرة، بالنسبة للطلقاء قبل المسجونين، طالما أن الطلقاء والمسجونين، يتألمون معاً، ويفرحون معاً!
مكمن الخطأ، في تعلّق الرئيس عرفات، بتفصيلات ومحتشدات الفحوي المألوف، لصلاحياته، علي الرغم من إدراكه، بالملموس، أن أي شخص، ليس في وسعه، أن يكون مؤسسة متكاملة، تدرس وتحسب، وتقرر في رويّة وصواب، أن الرجل أصبح مسكوناً بالماضي، دون اكتراث كبير، بإشكالات الحاضر، وآفاق المستقبل، وتنشغل مساحات ذاته التاريخية، بمشاعر وأحاسيس الانتماء، للكبار التاريخيين، في العالم، وجميعهم قضوا نحبهم، باستثناء كاسترو، الذي التحق بهم ـ كأبي عمّار ـ شاباً يافعاً!
أما مكمن الخطأ، في تعلق الحكومة بتسميتها التامة، فإنه يُنسب للنظام السياسي، الموبوء بتفاؤلاته وتعجلاته الخاطئة. فقد كنا قادرين علي اشتراط الربط، بين استحداث منصب رئيس الحكومة، وحصار الرئيس عرفات. فمن يضغط لإحداث تغيير في نظامنا السياسي، عليه أن يضمن لهذا النظام، نصابه، فلا يحبس رأسه ويُطلق جسده، لأن من حق المشنوقين أنفسهم، أن يقفوا علي أقدامهم، وأن ينتزعوا لحظة صفاء، وأن تتوحد أجزاؤهم، فما بالنا بمن يُراد لهم، أن يعيشوا وأن تصلح أحوالهم! سبين الحكومتين، العباسية والعلائية، توجعت المسافة بآلام مخاض عسير، وتوغلنا في الطريق الخطأ، وزادتنا ألماً، حيثيات التجربتين، وما أفرزته من حالات علي الأرض، ثم زاد الطين بلة، ما تواتر عن تورط أعضاء من الحكومة العلائية، في موضوع توريد الإسمنت للجدار العنصري، وغير ذلك من المفاسد، الأمر الذي جعل الأصعب من مناشدة الحكومة بأن تذهب، هو مناشدتها بأن تبقي، مما جعل الأسهل، هو ما يبدو مستحيلاً: إعادة الصياغة، لنظام الحكم، بدءاً بالمسارعة بكل جسارة، الي تشكيل حكومة من القوي الوطنية والإسلامية، تنفذ برنامج إصلاح وكفاح. فلا بد من إعادة صياغة النظام السياسي، بالاستفادة من غيابه الفعلي، علي الأرض، ومن حضوره الرمزي، في الأذهان! - القدس العربي -