عندما وقعت احداث غزة سألت نفسي هل ان تتابع عمليات الخطف وتلاحق استقالات الضباط ومطالبة «كتائب شهداء الاقصى» بالاصلاح ومحاربة الفساد والفاسدين هو «انقلاب» مدروس في هيئة «حركة تصحيحية» خطط له ونفذه طرف في الحزب الحاكم (فتح)، وهذا الطرف متغلغل في التنظيم والأجهزة الامنية ويحظى بدعم قوى اقليمية ودولية؟ هل نحن امام انشقاق جديد شبيه بانشقاق العقيدين «ابو موسى» و«ابو خالد العملة» والمرحوم ابو صالح العام 1983، هدفه اطاحة عرفات وقيادة «فتح» وتشكيل «قيادة بديلة» وفرض «الاصلاح والتغيير»؟ أم ان ما جرى هو «تمرد فوضوي» نفذه «هواة» هدفهم تحقيق مطالب جزئية ادارية وتنظيمية وتحسين مواقعهم في السلطة وحركة «فتح»، ويمكن لاسرائيل والقوى الخارجية استغلاله؟ ثم ما هي نتائج وأبعاد «احداث» قطاع غزة على القضية الوطنية ووحدة الشعب الفلسطيني ودور الحزب القائد ووحدته؟ وهل هذه الاحداث مرشحة للتمدد الى مدن الضفة الغربية ومخيمات اللاجئين في الشتات؟
في البداية، رجحت فرضية الانقلاب المدبر، واخذت بوجهة نظر قيادة «فتح» التي اتهمت قوى اقليمية بالوقوف خلف الاحداث، وتعاملت مع الامر باعتباره حركة منظمة مدعومة خارجياً، لا فرق اذا حملت صفة انقلاب او حركة تصحيحية. ولعب وقوع عمليات الخطف والاستقالات دفعة واحدة، خصوصاً استقالة مدير الاستخبارات العامة واستقالة رئيس الحكومة، وانتشار خبر احتمال داهمة «المقاطعة» مقر عرفات في رام الله، دوراً رئيسياً في تشكيل هذه القناعة. وتذكرت اشكال الصراع على السلطة التي شهدها النظام الرسمي العربي، وقلت يبدو ان النظام الفلسطيني لن يشذ عن الاشقاء. واستبعدت نموذج انقلابات سورية والعراق واليمن الشهيرة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، باعتبار ما يجري في قطاع غزة وما قد يجري لاحقاً في الضفة الغربية يختلف تماماً، ويصعب مقارنته مع الانقلابات العسكرية التقليدية.
ووجدت وجه شبه مع نموذج صراعات جبهة التحرير الجزائرية في اواخر عهدها في السلطة. وكانت نتيجتها خسارة الحكم و خسارة الشارع الجزائري، ومالت غالبيته لصالح التيار الاسلامي باتجاهاته العاقلة والمتطرفة. واستقر الامر بذهني لصالح احتمال تكرار النموذج المأسوي الذي رسمته الجبهة القومية في اليمن الجنوبي، وتذكرت النصائح التي قدمها «الاصدقاء» في حينه للفريقين بتجنب حل الخلافات بالطرق الدموية واعتماد الحوار وسيلة لحلهاة مهما بلغت حدتها. وتذكرت ايضاً صائح «السياسيين» العرب الانتهازيين المتطرفين الذين حرضوا الطرفين او احدهما على حسم الخلافات بالقوة، ونصحوا اعتماد مقولة نسبوها الى لينين مؤسس الثورة البلشفية اظنه منها بريء... لا تبخلوا بالرصاص في حسم الصراع ضد المنحرفين والاعداء الطبقيين.
وبصرف النظر عن عدالة المطالب التي ينادي بها معارضو قرارات عرفات المتعلقة باعادة تنظيم الاجهزة الامنية وتعيين اللواء موسى عرفات قائداً لقوات الامن الوطني اكبر اجهزة الامن الفلسطينية، فإن ما جرى داخل حركة «فتح» واجهزة السلطة في القطاع هو صراع مكشوف على السلطة اخذ شكل «تمرد فوضوي» هدف القائمين به ليس اطاحة عرفات وسلطته بل تكريس سابقة التمرد عليه وتعزيز مواقعهم في التنظيم وأجهزة السلطة، وإجبار القيادة على اجراء تغييرات اساسية من مستوى اقالة مدير الشرطة.
وبينت مجريات الاحداث ان حركة «التمرد» لا تملك امتداداً في الخارج، وظلت محظورة في نطاق مؤسسات السلطة و«فتح» في قطاع غزة. ولم ينجح من خطط لاغتيال الوزير السابق النائب نبيل عمرو ومن نفذ الخطة واطلق الرصاص في نقل الاحداث الى الضفة الغربية. وبيانات «شهداء الاقصى» في الضفة الغربية لا تعني ان كوادر «فتح» في جنين ونابلس والخليل ورام الله ضالعة في التمرد وبعضهم اطلع مسبقاً على الحركة التي تمت في القطاع. والكل يعرف انه ليس عسيراً على من يرغب من «فتح» وخارجها اصدار بيانات تحمل اسم «كتائب شهداء الاقصى».
الى ذلك أجزم ان لا صلة للقوى الوطنية والاسلامية في السلطة والمعارضة بحركة «التمرد» بعكس ما حصل في انشقاق 1983، حين دعمت «الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة» ومنظمة «الصاعقة» المواليتين لصورية جماعة «فتح الانتفاضة»، وجميع القوى الوطنية والاسلامية استنكرت عمليات الخطف وطالبت بوضع حد للفلتان الامني والتجاوزات. وبعضها دان «التمرد» والقائمين عليه وشككوا في نياتهم واهدافهم، وأبدوا مساندتهم لعرفات باعتباره الاصلب في مواجهة الاميركان والاسرائيليين. واذا كان بعض الفلسطينيين فركوا ايديهم فرحاً بما جرى فهم لم يحاولوا التأثير في وجهة الاحداث وكتموا موقفهم.
وبغض النظر عن دقة معلومات قيادة «فتح» من ضلوع قوى اقليمية بما حصل، إلا انني اعتقد ان لا مصلحة في هذه المرحلة لأي طرف اقليمي او دولي في انهيار السلطة، خصوصاً ان الادارة الاميركية مشغولة في الانتخابات ومصلحتها تتطلب تهدئة الوضع في العراق وفلسطين وعلى الجبهتين السورية واللبنانية. ولا تتحمل مفاجأة بحجم انهيار السلطة وتمزق حركة «فتح». والكل يعرف ان البديل المرئي لسلطة عرفات هو فوضى يصعب تقدير نتائجها. واذا كانت هناك جهة خارجية ضالعة في الاحداث فهدفها محدود لا يتعدى استخدام كوادر فتحاوية في هز العصا في وجه عرفات وإرباك الحركة الفلسطينية بعد قرار محكمة العدل الدولية.
واظن ان تحويل شارون والاحتلال وقوى اقليمية اخرى الى مشجب تعلق عليه قيادة «فتح» مشاكل الحركة الطارئة والمزمنة لا يساعد في تشخيص الأزمة. وتهرب مركزية «فتح» ومجلسها الثوري من تحمل مسؤولية تراكم الاخطاء وتوتر العلاقة الداخلية وتهيئة المناخ للتدخل الخارجي ان وجد لا يوفر المناخ الملائم لحل الازمة واختيار الدواء لعلاج المرض وليس تسكين الالم فقط. صحيح ان شارون وظف ما حصل في تأكيد صحة توجهه نحو حل آحادي الجانب وإظهار عدم قدرة السلطة اداء مهام الشريك في أي ترتيبات عملية حتى اذا كانت موقتة، لكن الاحتلال ليس مسؤولاً عن الأزمة الفكرية السياسية التنظيمية التي يعيشها الحزب الحاكم «فتح» وعن حال الاضطراب والتمرد وغياب التقاليد الديموقراطية في حل الخلافات. وإذا كان شارون نجح في تدمير استراتيجية السلام، فالأمر متوقعاً منذ فوزه في الانتخابات، لكنه قطعاً ليس مسؤولاً عن الاخطاء التي ارتكبها الفلسطينيون وعن ترهل الهيئات الفتحاوية وضعف علاقتها بالقاعدة.
وفي جميع الحالات لا تستطيع مركزية «فتح» تحميل الرئيس بوش والقوى الاقليمية مسؤولية الامراض البنيوية المزمنة في جسد «فتح» وجسد المنظمة. ولعله يفيد التذكير ان اوضاع هذين الاطارين لم تكن على ما يرام منذ ما قبل قيام السلطة، وكانا مصابين بامراض متنوعة جوهرها ذاتي غير مصطنع وليس مصدّراً من آخرين، واذا كان لا مجال لجردة شاملة فاني اعتقد ان المنطلقات الفكرية والتنظيمية التي بنيت عليها «فتح» العام 1965 وبقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية هرمت وشاخت ولم ينجح اصحابها في تجديد انفسهم. وبقي النظام الاساسي لحركة «فتح» مثلاً على حاله قرابة اربعين عاماً من دون تجديد أو تطوير. وكثيراً ما اصطدمت قيادة «فتح» بنصوصه الجامدة وغير الديموقراطية وفي المحطات السياسية الحاسمة تجاوزته وكان يجب تجاوزه.
ولا تستطيع مركزيـة «فتح» ومجلسها الثوري التنصل من الفشل في اصلاح اوضاع التنظيم وسيادة «ديموقراطية التراضي الاخوي» في حل الخلافات. وفشلت في تحرير التنظيم من مسؤولية انتشار الرشوة والفساد في مؤسسات السلطة وانتشار الفوضى السياسية والأمنية في البلاد.
ولا جدال في ان القوى الوطنية والاسلامية وضمنها «فتح» مسؤولة عن الفجوة الواسعة بينها وبين الناس في الضفة والقطاع. والشيء ذاته ينطبق على فشلها في اصلاح اوضاع السلطة وتنظيم العلاقات على اسس ديموقراطية وعن فشل جولات الحوار الوطني في بلورة رؤية استراتيجية مشتركة واشتقاق مهمات واقعية وبرنامج انقاد وطني يقلص الخسائر.
إلى ذلك، اعتقد أن الصراع على السلطة صعد بضع درجات في سلم الحسم، ويبدو أن بعضهم متعجل لصعود بقية الدرجات ويعتقد بأن شارون مصمم على تنفيذ خطته والانسحاب من غزة قادم لا محاله وبلايين البنك الدولي ستغرق غزة وأهلها بعد الانسحاب، وبصرف النظر عن النيات، فإن «التمرد الفوضوي» الحق ضرراً فادحاً بالسلطة وحركة «فتح» وان استصغار شأنه وتبسيط مدلولاته وابعاده الوطنية لا يساعد في مواجهة العاصفة المقبلة.
وقيادة «فتح» و«القوى الوطنية والاسلامية» و«قيادة الانتفاضة» مطالبة بالنظر الى ما شاهده الناس في غزة خصوصاً خطف مجموعة فرنسية من انصار الشعب الفلسطيني، ومحاولة اغتيال نبيل عمرو في رام الله، على انه دخان اسود يشير الى تحرك الازمة الكامنة في باطن النظام السياسي الفلسطيني، ويشير الى انها بلغت مرحلة الانفجار، وان وجهتها داخلية وليست ضد الاحتلال. وقد يكون دمار الزلزال الفلسطيني القادم اكبر من الخراب الذي احدثه انشقاق «فتح» والمنظمة العام 1984 ولم يتعاف النظام الفلسطيني من آثاره ونتائجه للآن.
واذا كان ايقاد شمعة خير من شتم الظلام، فالمصالح العليا تفرض القول قبل فوات الأوان: اصبح التصدي بحزم لحالة الفوضى والفلتان الامني مهمة وطنية من الدرجة الاولى. ولا غنى لمركزية «فتح» ومجلسها الثوري من لملمة اوضاعها الداخلية اولاً، واعتماد الديموقراطية سبيلاً لحل الخلافات ثانياً. وبديهي القول ان الحلول الامنية لمعضلات «فتح» التنظيمية تعقدها، ومراجعة تاريخ هذا التنظيم تؤكد ان القناعة النابعة من الوعي كانت دائماً المحرك الرئيسي لنضال الفتحاويين. وتجربة «الرفاق» في اليمن الجنوبي اكدت ان الاخذ بنصيحة «اصدقاء السوء» يقود الى الدمار والخراب وما تزال الجبهة القومية في اليمن تعاني نتائج وآثار المراهقة السياسية التي مرت بها قيادتها في مرحلة سابقة... - الحياة اللندنية -