ما الذي يجمع بين عرفات وشارون و... هيكل؟!
ثلاثة كائنات سياسية تعيش أو تفكر في السياسة، في الصحو والنوم 24 ساعة في اليوم.
كنت أحسب أن مكانة هيكل السياسية والصحافية تؤهله لخلافة زعيمه. كنت أتخيل انه سوف يلعب دور ذو الفقار علي بوتو في باكستان بعد هزيمة العسكر في الميدان. وكنت واهما، فقد انضوى هيكل تحت زعامة السادات ليصبح مجرد وزير، ثم مجرد سجين.
نعم، تقدم هيكل من رتبة صحافي وكاتب إلى موقع المفكر السياسي المتألق. لكنه طلق السياسة لأن حياته المترفعة والمرفهة لا تتحمل متاعب العمل السياسي. بل ها هو يعطي نفسه إذنا بالانصراف عن الكتابة عندما تعرض لوخز المضايقة، إلا انه كمخلوق ومفكر سياسي، لم يستطع إلا أن يمنح نفسه إذنا آخر بالحديث في السياسة على الشاشة.
عرفات وشارون لا يفكران في الاستئذان بالانصراف، أو بالأحرى كما أظن، لم يحن بعد موعد الانصراف. عجزُ العمر أو التصفية الجسدية هما وحدهما كفيلان بتغييبهما عن ساحة السياسة. نحن العرب ندعي اننا نضجنا، سياسة واعلاما، لكن ما زال اهتمامنا يتوجه الى النقطة التي يرسمها لنا الاعلام الغربي. بتنا نرشح عرفات للانصراف. ثم ننسى أن نده اللدود شارون يسبح في حالة انعدام للوزن السياسي، تكاد تفوق حالة الفراغ السياسي التي يعيشها عرفات.
إفلاس شارون السياسي يعود الى «الواقعية الانتهازية» التي تتسم بها الديمقراطية الاسرائيلية. فهي تسمح بتغيير المسار السياسي للدولة كلها وفق التصور الغريزي لرجل السياسة. الشخص هو الأقوى في اسرائيل لا المؤسسة الحزبية أو التشريعية. شارون يخسر حزبه ووزراءه وجمهوره الاستيطاني، ليفرض رؤيته العسكرية لـ«مزايا» الانسحاب من غزة. ويحاول التمسك بالحكم، منتقلا الى التحالف مع اليسار العمالي الذي يتفق معه في مشروع الانسحاب.
إذا كانت غريزة شارون السياسية محكومة ومحدودة شكلا بنظام ديمقراطي يجعله في النهاية آيلا للسقوط، فلا حدود لغرائز عرفات السياسية. الرجل هو نتاج العقل السياسي العربي الذي لم يستوعب، بعد، مفهوم الدولة كمؤسسات مستقلة، وسلطات منفصلة، وصلاحيات ومسؤوليات موزعة.
قدرة عرفات على الالتفاف تفوق قدرة شارون وبيريس على الاحتيال. بعد خمسين سنة من العمل السياسي والعسكري، لم يفقد عرفات قدرته على الحركة. يتراجع هنا ليتقدم ويكسب هناك. يمنح ليأخذ. يلعب على عامل الوقت ليحيِّد الصديق والخصم.
الأمن هاجس العقل السياسي العربي. الأجهزة لا المؤسسات هي أداة القوة وهيبة السلطة، وهي أيضا في كثير من الدول العربية سبب المحنة. أميركا الدولة الأكبر في العالم تملك 15 جهاز أمن. عرفات في الضفة وغزة يملك 11 جهاز أمن! لديه 24 ألف شرطي ومخابراتي في قطاع غزة وحده. عرفات الرمز لكفاح شعبه لم يعتقد يوما أن شعبيته كانت كافية لفرض سلطته! تخلى عن رئاسة الحكومة ولم يتخل عن قيادة الأجهزة. ظل الى آخر لحظة يقاوم اختصارها وتوحيدها، أو التخلي عنها للسلطة التنفيذية والمسؤولة عنها دستوريا.
الديمقراطية تعبير مهذب عن انسانية الدولة وأخلاقية النظام. الدولة الديمقراطية لا تغتال بالتجزئة، ولا تصفى بالجملة. هاجس الأجهزة عند شارون مثيلهُ عند عرفات. فقد شارون مصداقيته الدولية، بعدما اطلق العنان لاجهزته الأمنية والعسكرية لاغتيال المقاومين على الشبهة، بدلا من اعتقالهم وتقديمهم الى محكمة عادلة.
في الجمهوريات العربية، احتل هَمُّ التوريث رقعة لا بأس بها من مساحة العقل السياسي. من حسن حظ اسرائيل ان شارون لا يفكر جديا بتوريث ولديه. زهوة بنت عرفات دخلت روضة الأطفال، ولم تفكر، بعد، بدخول «روضة» السياسة ووراثة زعامة أبيها. شارون لم يربِّ جيلا سياسيا يرثه. كان جيل الليكود والمستوطنين عاقا بأبيه وعرابه الروحي.
لكن عرفات ربى جيلا يفكر بعقليته، ونقله معه بعد أوسلو إلى الأرض المحتلة، وأسند إليه إدارة السلطة والأجهزة والحزب (فتح)، ومنحه مسؤوليات مكنت معظم أفراده من التورط في تجاوزات خطيرة، كإساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ والاثراء غير المشروع. انتهازية الديمقراطية الاسرائيلية وفوضاها ساهمتا في استفحال الفساد السياسي والمالي في اسرائيل. بعد ثلاث سنوات في الحكم، حقق شارون المتهم في ذمته ونزاهته أمنا نسبيا لاسرائيل، لكنه فشل في تحقيق السلم. عبقريته العسكرية جعلته يصر على سحب المستوطنات المحاصرة في غزة، فأثار عليه المستوطنين وأحزاب اليمين الصهيوني والديني. وهذا هو سبب حالة انعدام الوزن التي تهدد حاضره ومستقبله السياسي.
في المقابل، وبعد عشر سنوات في السلطة، يجد عرفات نفسه في لجة صراع بين جيلين، جيله المترهل الفاقد للخيال، وجيل طموح الى المشاركة، وملح على المحاسبة، جيل أكثر تعقيدا وواقعية ورفضا لأسلوب الالتفاف والدوران. عدم رغبة عرفات في الاصلاح، أو عدم قدرته على الاذن للاشخاص بالانصراف، وإحلال المؤسسات والنظام والقانون كأساس للتعامل بين السلطة ومجتمعها... كل ذلك أوقع الزعيم التاريخي في فراغ الهوة التي أحدثها الصراع بين الأجيال.
الساسة والإعلاميون العرب الذين «قبضوا» من الإعلام الاسرائيلي والاميركي مسألة ترحيل عرفات، يتجاهلون أن شارون الذي يعيش معه حالة انعدام الوزن مهدد قبله بالغياب. شارون متهم بفشل سياسته وبالنكوص عن مشروعه. وربطه لحياته السياسية بالرهان على الانسحاب من غزة، جعل المستوطنين يصرون على تجاهل غرضه الاستراتيجي في التخلي عن غزة لاستيطان الضفة. حالة انعدام الوزن عند عرفات أخف وطأة. لا اعتراض على زعامة عرفات السياسية. الاعتراض ينصب على إدارته. والجناح العسكري في حزبه يعترض على جيله. الواقع ان ما أصاب حزب «فتح» هو ما أصاب أحزاب السلطة العربية. الحرس القديم يحتل القيادة. 15 سنة مضت على آخر انتخابات جرت في المجلس الثوري واللجنة المركزية. أفرزت القاعدة الحزبية من الداخل قيادات أكثر واقعية من جيل عرفات. مروان البرغوثي في الضفة ومحمد دحلان في غزة يتكلمان العبرية، وربما مستعدان للتفاوض لاستعادة الأرض، في مقابل التنازل عن «حق العودة» الذي لا يرغب ثلثا فلسطينيي الشتات في ممارسته.
الذراع العسكرية للحزب (كتائب شهداء الاقصى) ربما أخطأت في الانجرار وراء الجهاد بين الاسلاميين في عسكرة الانتفاضة، لكن المناضلين الفتحيين الجدد أكثر صراحة في مجاهرة العدو بحق المقاومة المسلحة من الجيل الأسبق. عرفات نفى تورطه في اسناد المقاومة المسلحة. عندما قدم شارون «المستمسكات» الى اميركا، كان على عرفات أن يصارح ويعترف. فالمقاومة حق مشروع وطنيا ودوليا. امعانه في الانكار جعله موضع المتهم «المدان» اميركيا واسرائيليا، وهو يقضي «عقوبة» السجن محاصرا، إن لم يكن مهددا بالتصفية والاغتيال.
لعل الحماسيين يدركون اليوم خطأ إلغاء السياسة من مشروعهم الانتحاري. فقد تسببوا بالاتيان باليمين الاسرائيلي الاستئصالي الى الحكم. تمكن شارون من تدمير البنى الأساسية للدولة الفلسطينية المنشودة، ومن قضم الأرض بحجة الأمن، وجرد بالاختراق والاغتيال القاعدة الجهادية من قياداتها، وتركها لا تدري ما تفعل وهي ترى أجنحة فتح السلطوية والأمنية تتناحر على الفتات في غزة.
إذا كانت مهارة شارون قادرة على إدخال حزب العمال الحكومة، وجلب بيريز لمفاوضة الفلسطينيين على تسوية سياسية تلغي «حق العودة» الذي كان سببا في ادامة الصراع خمسين سنة، فإن شارون بإصراره على تسوير واستيطان الضفة، يرسي اساسا لصراع مستقبلي أكثر مرارة ودموية.
قلت ليس عرفات وحده الذي يسبح في حالة «انعدام الوزن». فقد سبقه أو أنضم إليه شارون. وبعدُ، ألسنا نحن جميعا في المنطقة، عربا واسرائيليين، نعيش حالة انعدام الوزن؟ - الشرق الأوسط -