بعد ظهر السبت الماضي وامام مقره في رام الله ـ يسمى «المقاطعة» ـ سئل ياسر عرفات عن الازمة، فرد بسؤال: أزمة؟ أي أزمة!

تصرف وكأنه ماري انطوانيت، زوجة الملك الفرنسي لويس السادس عشر، مع انه لا يشبهها في شيء، فهي عندما بدأت الثورة الفرنسية عام 1789، وثار الشعب الفرنسي، سألت: لماذا هم ثائرون؟ فقيل لها، لا خبز هناك، وهم جائعون، فردت: ولماذا لا يأكلون البسكويت؟

كان المتمردون في فتح يحرقون مكاتب السلطة في خان يونس، عندما اطلق عرفات سـؤاله الشهير: أزمة، أي أزمة؟ فالثورة لم تصل بعد الى باب المقاطعة في حين ان الثوار الفرنسيين نقلوا الملكة ماري انطوانيت من قصر فرساي الى قصر تويليري في باريس، وعرفات انتقل من العالم الى.. المقاطعة.

كان عرفات علم بتفاصيل لقاء المبعوث الاوروبي وزير خارجية اسبانيا خافيير سولانا بزعيم المعارضة الاسرائيلية شيمون بيريز في تل ابيب، حيث ابلغه ان اوروبا قوة مهمة وهي مصرة على القيام بدور فعال في المنطقة رغبت اسرائيل أم لا..!

هكذا راهنت ماري انطوانيت على المساعدة الاوروبية، وعندما وُضعت وزوجها الملك في الاقامة الجبرية في قصر تويليري، ظلت تحاول حث زعماء اوروبا على انقاذهما، وكان بينهم شقيقها امبراطور النمسا، وشقيقتها ملكة نابولي، ولكنها قيدت لاحقا الى المقصلة. طبعا عرفات لن يلاقي هذا المصير، فقد بلغه ما نشرته احدى الصحف الاسرائيلية مؤخرا، من انها سألت احد قياديي فتح عن السبب الذي دفعه الى تغيير رأيه في الافتراق عن خط عرفات السياسي، فأجابها ان احدى العرافات الشهيرات ابلغته ان امام عرفات من العمر بعد ما لا يقل عن ستة عشر عاما، فأجرى القيادي حساباته ورأى ان من مصلحته البقاء مع عرفات.

ويروي لي مرجع اميركي كان زار منطقة الشرق الاوسط مؤخرا، ومر في طريقه على عرفات، انه لم يلحظ عليه اي تغيير اطلاقا، وكأن لا شيء يحدث حوله او في العالم، الوجوه نفسها تجلس الى جانبه وتستمع الى اقواله، وهو يتصرف معتقدا انه كل يوم يسجل انتصارا على الاعداء، طالما ان احدا لم يستطع اختراق مدخل المقاطعة والقضاء عليه او حمله على المغادرة، «انه يعيش وهم البطل المنتصر، ليس مهما ما يحدث خارج مقره».

ويتذكر محدثي، انه قبل اكثر من عام، زار عرفات في مقره ويقول: كنا جالسين حول طاولة، وكانت هناك قنينة مياه وسط الطاولة، كان الحوار ساخنا، فمددت يدي وامسكت بالقنينة وقلت لعرفات: قبل سنة كنت انت في الوسط تحكم، تماما مثل هذه القنينة، ثم ازحتها الى اقصى حافة الطاولة واضفت: اما اليوم فانك تقف على الحافة المسننة، وعلى وشك السقوط، لكنك تستطيع ان تعود الى الوسط وتصبح رمزا حقيقيا لكل الفلسطينيين اذا وافقت ان تفوض صلاحيات اوسع لرئيس الوزراء وكان آنذاك محمود عباس.

طبعا غضب عرفات من هذا الكلام الصريح، وان كان محدثي رأى التشجيع له في عيون الجالسين حول الطاولة من نبيل شعث الى صائب عريقات الى نبيل ابو ردينة. المشكلة ان احدا لا يجرؤ على مواجهة عرفات بالحقيقة وهي ان رئيس وزراء اسرائيل ارييل شارون يضرب عرض الحائط بكل مواقف اوروبا او تهديداتها، وبكل مواقف الدول العربية او الاسلامية، اذ ان شارون يدرك انه كسب الى جانبه الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش الذي صار ينظر الى العمليات الانتحارية الفلسطينية بصفتها عمليات ارهابية. عندما حمل شارون اقتراح الانسحاب من قطاع غزة الى واشنطن، اقنع الرئيس الاميركي بأنه سيقدم غزة الى الفلسطينيين شرط ان تطلق الادارة الاميركية يده في الضفة الغربية، وحقق شارون اهم انتصار في حياته عندما تسلم رسالة من بوش في 14 نيسان (أبريل) 2004، اعتبر فيها المستوطنات في الضفة «تجمعات حالية سكنية كبرى لمواطنين اسرائيليين».

وكان وزير الخارجية الاميركي كولن باول عبر اخيرا عن «بعض خيبة الامل» بالنسبة الى تباطؤ اسرائيل في نزع بعض تجمعات المستوطنين، حسب ما التزم به شارون امام الرئيس الاميركي. ويسألني محدثي عما اذا كنت اصدق كل ما يصرح به كولن باول، خصوصا ما قاله بعدما التقى عرفات في مقره في 17 نيسان (أبريل) 2002؟ ثم يقول: ان ما يصل عرفات من المواقف الاميركية ضده، يصله عبر الاعلام وليس مباشرة، اذ عندما قام باول بتلك الجولة الشهيرة وفشل في تحقيق وقف لاطلاق النار بين الاسرائيليين والفلسطينيين، وقبل ان يتوجه للقاء عرفات، اعد له السفير الاميركي في اسرائيل دان كرتزر قائمة بالمطالب التي يجب ان يفرضها على عرفات من اجل انقاذ عملية السلام، حمل باول القائمة وتوجه الجميع الى المقر، ولم يأت وزير الخارجية الاميركية على ذكر اي من تلك المطالب او الشروط، وخرج من ذلك اللقاء ليقول للذين رافقوه وكان بينهم السفير كرتزر: هل شهدتم كم كنت عنيفا مع عرفات؟

كأن الادارة الاميركية نفسها لا تريد ان يغير عرفات من اي من تصرفاته، لاسباب تساعدها على التنصل من مسؤولية اقامة دولتين مستقلتين كما اعلن الرئيس الاميركي في 24 حزيران (يونيو) 2002، في ذلك الخطاب الشهير، حيث انتهى التزامه بذلك الوعد مع انتهاء القاء الخطاب. وفي الاسبوع الماضي صدر تقرير مثير عن مكتب التنمية الدولية في لندن، تم اعداده بالتشاور مع وزارة الخارجية البريطانية، جاء فيه تحذير خطير من ان ادارة بوش لم تعد مهتمة اطلاقا بعملية السلام في الشرق الاوسط. والغريب ان لا الفلسطينيين او اي دولة عربية لفته هذا التقرير البريطاني الذي تضمن ايضا سقوط العمل على اقامة دولة فلسطينية مستقلة من اولويات الادارة الاميركية المهتمة هذا العام بالانتخابات الرئاسية الاميركية، وبالوضع في العراق، وقلقة على امن المواطنين الاميركيين من احتمال العمليات الارهابية، وبالتالي لم يعد يهمها اطلاقا مستقبل الفلسطينيين الذين سيقضي الجدار الامني الاسرائيلي على الواقع الجغرافي المتبقي لهم لاقامة دولة قابلة للحياة. ويحذر التقرير من احتمال ان يتخلى الفلسطينيون عن دعم حل الدولتين ليدعموا حل دولة واحدة تمتد من الاردن حتى البحر المتوسط، على اساس مراهنتهم بأن عدد العرب في اسرائيل سيفوق عدد اليهود خلال عشر سنوات تقريبا.

ويلفتني المصدر الاميركي الى أمرين، الاول ان اسرائيل مددت العمل بقانون يمنع منح الجنسية الاسرائيلية لاي فلسطيني/ او فلسطينية يتزوج من عربي اسرائيلي، في محاولة منها لتهجير العربي حامل الجنسية الاسرائيلية الى حيث يقيم شريك حياته، وإلا تصبح اقامتهما غير شرعية في اسرائيل. ورغم عنصرية هذا القانون، لم يصدر اي احتجاج دولي على تطبيقه، وبالطبع لم يحتج العرب.

الثاني، ان الرأي العام الاسرائيلي بأغلبيته مشجع على اقامة الجدار. هناك نوع مما يسمونه: الادعاء بالاعتقاد بأن هذا الجدار هو حدود العالم، ليس هناك من اسرائيلي يريد مواجهة المأساة الفلسطينية.

قد تكون العمليات الانتحارية الفلسطينية اثرت كثيرا، لا سيما تلك التي طالت ابرياء وشبانا ينتظرون الدخول الى الديسكو او جالسين في الباصات، لكن منذ ان منحت اتفاقيات اوسلو عام 1993 الفلسطينيين الحق بحكم انفسهم في ظل سلطة فلسطينية، وبسببها سيطر عرفات فعليا على كل جوانب الحياة الفلسطينية، من الاجهزة الامنية الى الاذاعة والتلفزيون والاقتصاد، حتى تحولت حياة الفلسطينيين الى جحيم: تضاعفت البطالة وتضاعف معها تشريد الناس. ان اسرائيل تجرف البيوت يوميا وتستبيح الممتلكات وحياة العجائز والاطفال. ويؤكد محدثي الاميركي انه قبل خمس سنوات كانت الاغلبية الفلسطينية ضد العمليات الانتحارية، اما اليوم، وبسبب المهانة والفقر واليأس، لم يعد امام الفلسطينيين إلا تأييد هذه العمليات «انهم يبحثون عن الحياة في الآخرة، بعدما تأكدوا ان لا حياة لهم على الارض».

واسأل محدثي عما اذا كان محمد دحلان هو الحل، فيقول: انه يحاول التقرب من المنتسبين الى فتح في غزة، لكن هؤلاء المقاتلين طوال الانتفاضة ظلوا على مسافة منه، فهم يتخوفون من علاقاته بالأجهزة الداخلية والخارجية، ودوره في السلطة عندما انقض من دون رحمة على مطاردة الاسلاميين المعارضين في منتصف التسعينات، ان قاعدته محصورة في جزء من غزة، وعلاقاته موضع الجدل تمنعه من تبوؤ منصب الزعيم الوطني الحقيقي بنظر الفلسطينيين، وهذه الازمة لن تغير هذا المفهوم، ولا احد يعرف ان كان هو وراء عمليات الخطف التي وقعت مع بدء الازمة، لكن جماعته وراء المظاهرات، وفي وقت تطالب هذه الجماعة بالاصلاح، فإن الوسائل التي تعتمدها من الهجوم على مقرات الشرطة واطلاق النار على المناوئين واحراق مكاتب السلطة واصدار الانذارات، تعكس كلها اساليب قيادة الحرس القديم التي يقول دحلان انه يريد اصلاحها.

لقد دخلت القضية الفلسطينية بأبطالها الى النفق المظلم ووصلت الى الطريق المسدود وتكاد البوابة التي تم الدخول منها ان تغلق على الجميع. قد يكون الحل في اجراء انتخابات. رحم الله سميحة خليل التي خاضت انتخابات 1996 ضد عرفات وحصلت على %9.3 من اصوات الناخبين... لن تسقط الآن سلطة عرفات إلا اذا استعاد مروان برغوثي حريته! - الشرق الأوسط -