يحظي الأردن الرسمي، وبعض سياساته، بالصبر الشعبي والرسمي، الفلسطيني، وربما العربي، علي نحو لم يتأت لنظام عربي آخر. فأقل القليل، من الكثير المعلوم، عن أشكال التعاون الأردني الإسرائيلي، في فترة حكم شارون؛ كان من شأنه أن يقيم الدنيا ولا يقعدها، لو كان الأمر يتعلق بنظام عربي آخر، أو لو كان الأمر، يتعلق بالسلطة الفلسطينية نفسها. معني ذلك أننا، امتنعنا عن ذم السياسات الأردنية، ووقائعها الإسرائيلية، علي النحو الذي لم نكن سنفعله، صبراً علي أنفسنا، لو أن بعضنا الفلسطيني، اقترف هذه السياسات والوقائع. ومن الطرائف، أن كرم الأخلاق الفلسطيني هذا، تتشارك فيه السلطة والمعارضة، الإسلاميون والوطنيون، وكل أطياف الناطقين سياسياً!
كأن إحساسنا بأسباب ومقتضيات التحمل، والصبر علي الأشقاء الأقربين، قد جعلنا نستذكر، في كل لحظة، وضعية التداخل والأواصر الاجتماعية، بين الناس في ضفتي النهر، ولا نري من الصورة، إلا جانبها المقبول، ومعظمه الرسمي، يتمثل في المساندة السياسية اللفظية، والحذرة في صياغتها. أما معظمه الشعبي، فيتمثل في حرارة المساندة والتعاطف، من أهلٍ أعزاء، في الأردن، ومن قوي حزبية ونقابية، وشخصيات وعشائر ورموز!
لا أحب المقدمات، فها أنذا أطرح رأيي، في صحيفة حريصة، علي أن لا يُرمي نظام عربي، من علي صفحاتها، بأي هجاء مجاني. ونحن، هنا، لا نهجو، وإنما ننتقد بمرارة، وبمنطق لن يغيب عن الصحافة الأردنية نفسها. ومثلما رأينا أن من واجبنا، مؤازرة الأردن ـ في هذا المكان ـ ضد خطط الزرقاوي وجماعته، وأن نقبل الرواية المتورمة، التي روتها وسائل الإعلام الأردنية، علي لسان مصادر رسمية، فإن من واجب الحكومة الأردنية، أن تؤازرنا ضد شارون وجماعته، وأن تعطي للرواية الحقيقية، عن مخططات العدو، مفاعيلها علي الصعيدين السياسي والاقتصادي، لكي يعرف الإسرائيليون جميعاً، أن شارون يسد الآفاق في وجوههم، ويقطع الطرق علي تجارتهم!
فلا يجوز، أن تُمنح حكومة الجنرالات القتلة، اتفاقية تتيح للسلع الإسرائيلية، دخول السوق الأردنية ـ وربما منها الي العالم العربي ـ بدون أن تكف هذه الحكومة، عن تطوير عدوانها، والتشبث أكثر، برفض التسوية والتفاوض، وبدون أن تظهر أدني تفهم، للإحراج الذي تسببت فيه للحاكمين العرب، الذين روّجوا للتسوية، وتحمسوا لها، دون أن تتوقف لحظة، عن تدمير منازل الفلسطينيين وقتلهم، ولو لساعتين أو يومين، بشفاعة المنتدي الاقتصادي واتفاقياته. ولا يجوز أن تُمنح حكومة الجنرالات الفاشيين، الذريعة لتجديد عنفوان سياساتهم، أمام الإسرائيليين والأمريكيين والأوروبيين، من خلال وسيلة إيضاحية، تقول بالقلم العريض: من هو هذا المجنون، الذي يقول بأن ضرباتنا اليومية للفلسطينيين علي رؤوسهم، وتعطيل التسوية معهم، من شأنه إيذاء وتجميد علاقاتنا العربية، علي كافة المستويات؟ فها هي العلاقات تتطور، وها هي الاتفاقات!
مؤسف حقاً، أن تنخفض أو تنتكس، معدلات التعاون التجاري، بين حكومة شارون ومعظم البلدان العربية، بينما تنتعش مع الأقربين في الأردن. ومؤسف فعلاً، أن تتعطل آليات التجارة البينية، في العالم العربي، وأن تنشط التجارة بين الأردن والدولة العبرية. ومؤسف جداً، أن تمر السلع الإسرائيلية الي العراق، علي حساب الإنتاج الأردني، ومؤسف للغاية، أن تؤخذ القرارات الاقتصادية في الأردن، بما لا يقبله الأردنيون، أو بما يحزنون له أو يتفجعون عليه. ونقولها بإخلاص، إن مثل هذه السياسات، في العالم العربي، هي التي ترفع منسوب غضب الناس، علي حكامها؛ الأمر الذي من شأنه، أن يجعل من شرائح شبابية ساذجة، عجينة في ايدي متطرفين، ينفذون أجندات عدمية حمقاء، بالعنف الكريه، في العواصم العربية!
نعرف بأن هذه السطور، لن تغيّير من الأمر شيئاً، لكننا نسجل قراءتنا لهذا التطور السلبي، في وضعية التعاون الأردني مع حكومة شارون، ونقول أنه لا يخدم السياسة الأردنية، ولا الاقتصاد الأردني، ولا التسوية، ولا سمعة الأردن الرسمي، الذي لا بد أن يحرص ـ أول ما يحرص ـ علي سمعته في الداخل. فقد كنا نتمني، أن نبدأ عصر النطق الصريح، لكي تشترط الحكومة الأردنية، قبل أي تعاون مع الدولة العبرية، موقفاً جدياً لصالح التسوية المتوزنة، وأن تتلو في هذا السياق، بغير حرج، بياناً يستند الي مواد تاريخية، ومواد من واقع الإجراءات الأمنية الراهنة، أي من الإرشيفات الخاصة، ومن الدوائر العاملة، لتقول للإسرائيليين بصراحة، كيف وقف الحاكمون العرب، مع مشروع الدولة العبرية، منذ أطواره الحرجة القاصرة، وساندوه ودفع بعضهم حياته ثمناً لذلك، وظلوا يساندونه حتي بلغ أطواره الخطيرة. فلا بد من النطق الفصيح، في زمن ع الهوا سوا الذي لا حرج فيه من أي شيء، ليقول بعض الحاكمين العرب، للإسرائيليين، إننا خدمناكم سلفاً وبدل أن نطوّر خدماتنا لكم، اعطونا أولاً، القليل القليل، من رد الجميل، حفظاً لماء وجوهنا! - القدس العربي -