يستحسن ان تشرح القاهرة ما وُصف بأنه مبادرة جديدة لوقف «اعمال العنف» بين الفلسطينيين واسرائيل. العنوان حيادي جداً لانه يفترض ان العدوان متبادل، مع ان «العنف» هو حالياً عنف اسرائيلي يندرج في اولويات حكومة ارييل شارون، وهي لم تشر من قريب او بعيد الى امكان تعديل برنامجها. لنتجاوز العنوان الى الهدف، اي وقف اطلاق نار متبادل ومتفق عليه كجزء من عملية تهدف خصوصاً الى اعادة تحريك التفاوض بين الطرفين.

الواقع ان الاميركيين والعرب والاوروبيين والاسرائيليين يعرفون الآن ان جملة ظروف تجمعت وتداخلت لتجعل النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي شأناً مؤجلاً الى ما بعد الانتخابات الاميركية. وسواء أُعيد انتخاب جورج بوش او فاز غريمه جون كيري، ليس متوقعاً ان يستأنف الاهتمام بهذا الملف قبل منتصف السنة المقبلة. سيكون على بوش ان يعيد رسم استراتيجيته العامة، وسيكون على منافسه ان يحدد سياسته واولوياتها. وفي كل الاحوال، اذا بدأ احتساب الوقت منذ الآن فقط هناك سنة «ضائعة»، اي سنة فراغ يسعى شارون الى ملئه بمزيد من السياسة ذاتها التي طبقها طوال الاعوام الأربعة الماضية، وهو ما بات يعبّر عنه بخطة الانسحاب من قطاع غزة. اما الجانب الفلسطيني فلا يجد امامه، في غياب الاحجام الاسرائيلي عن استئناف التفاوض، سوى خيارات هزيلة ومحدودة.

اكثر من ذلك، يتطلب هذا الفراغ الذي نشأ بسبب الغيبوبة الانتخابية الاميركية، وقبله بسبب الانحياز البوشي الاعمى الى وحشية شارون، البحث عن سبل لـ«ضبط الوضع» في انتظار عودة واشنطن الى شيء من الرشد ومن الاهتمام بالبحث عن السلام في المنطقة. وعلى رغم ان الاسرائيليين افرطوا في استخدام القوة وبرهنوا ما يريدون برهنته، وعلى رغم ان الفلسطينيين تعرضوا لخسائر واحباطات هائلة، الا ان الازمة هي ازمة الطرفين معاً، مع فارق انها ساهمت في تعطيل جوانب كثيرة من حياة الفلسطينيين ومن حيويتهم في تجاوز العثرات.

كانت «خريطة الطريق» فرصة للبدء في تطبيق تلك الضوابط. وقد جاء بوش شخصياً الى شرم الشيخ والعقبة، قبل سنة، لاعلان تبنيها وابداء جدية معينة في المراهنة عليها. الا ان المفهوم الاسرائيلي لتنفيذ تلك «الخريطة» ما لبث ان شلّها، ولم يجد الاميركي اي خطأ في تبني الموقف الاسرائيلي طالما انه يمكن ان يؤمن اصواتاً للرئيس الراغب في البقاء في البيت الابيض. واستمر هذا النهج الانتهازي الاميركي، ولا يزال، من دون اي تغيير. وحتى قبل الدخول في الحملة الانتخابية كانت عصابة شارون نجحت في تقييد اي مبادرة اميركية وجعلت من الديبلوماسية الاميركية بيدقاً على رقعتها... الى ان حصل ما حصل اخيراً في رفح عندما دفعت اسرائيل بإرهابها التدميري الى اقصاه، فوجدت واشنطن نفسها عاجزة عن تغطيتها ودعمها.

في هذا الممر الصعب والخطير تريد القاهرة ادخال مبادرتها، وهي ليست الاولى من نوعها، وان كانت الظروف توفر لها بعض المبررات. لكن يخشى ان يكون التحرك المصري احد تداعيات التدمير في رفح. اي ان يكون التدمير قد تحوّل الى دعوة لمصر لا تستطيع رفضها. ويخشى كذلك ان يكون هذا التحرك جزءاً من الخطة الشارونية نفسها التي لم تخف في اي لحظة سعيها الى اقحام مصر وتوريطها لتتولى ضبط القطاع (بعد الانسحاب منه) فيما تبقى لاسرائيل حرية تحرك في الضفة بلا أي ازعاجات.

المقلق هو ان شارون لا يتخيل لمصر او لغيرها دوراً خارج خطته او حتى بالتوازي معها او بمعزل عنها. المقلق ايضاً ان مجرم الحرب هذا يبحث عمن يقوم بالاعمال القذرة بدلاً منه ولا يسعى الى الاقلاع عن تلك الاعمال. المقلق خصوصاً ان احداً لا يضمن التزامات شارون، ولا حتى الولايات المتحدة التي قد تبارك من وراء الكواليس من دون ان تتحمل التبعات. المقلق كذلك ان مصر مدعوة الى التعامل مع خطة انسحاب من غزة لم يستطع صاحبها بعد تسويقها داخل حكومته. المقلق اخيراً وليس آخراً ان شارون قد يجاري التحرك المصري في جانب واحد ثم يتنكر له عند اول فرصة متاحة لاغتيال اي ناشط فلسطيني، خصوصاً ان غريزة الاجرام عنده اقوى من عقلانية التعاقدات.

والمقلق اخيراً ان الولايات المتحدة سبق ان خذلت مصر، وان اسرائيل شارون سبق ان خدعت القاهرة مرات عدة. وفي السنوات الاخيرة لم يسمح شارون لأي فرد من عصابته بزيارة القاهرة الا اذا كان يريد ان يحمّله استفزازاً او كذبة او خدعة. ينبغي ان لا تقدم مصر على مبادرتها الا اذا كانت لديها ضمانات وتطمينات وتأكيدات، فهي تعلم جيداً انها لا تستطيع الوثوق بشارون ولا تستطيع ان تضغط على الفلسطينيين بما ليس في قناعاتها، وإلا فإنها ستقع في احباطات جديدة لا داعي لها. فأكثر ما يُخشى هو ان تُخذل القاهرة فتَخذل. صحيح انها تتحرك من قبيل الواجب، لكن الاصح انها ليست مضطرة لإنقاذ شارون ولا للقيام بما لا يجرؤ عليه بوش. - الحياة اللندنية _