منذ تقرير رئيس الحكومة الفلسطيني السابق, محمود عباس, الى المجلس التشريعي ("الحياة" في 9 أيلول / سبتمبر 2003) 0 وهو بيان استقالته وعزوفه عن مزاولة سلطة طيفية تحاصرها أجهزة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الأمنية والمالية, و"ديبلوماسيته" السرية - لم يوجه نقد الى السلطة الفلسطينية. ورئيسها, يتصف بالقسوة التي يتصف بها نقد الرئيس المصري, حسني مبارك ("الحياة" في الأول من حزيران / يونيو). ففي معرض شرح تعهد الدولة المصرية الشطرَ الفلسطيني من الخطوات الأمنية الآيلة الى انسحاب القوات الاسرائيلية من غزة, تمهيداً لإخلائها من المستوطنين وقوات الحماية والاحتلال التي تسهر عليهم, كتب الرئيس المصري الى زميله الفلسطيني, بواسطة اللواء عمر سليمان, أن مصر "على استعداد لتدريب وتجهيز وتهيئة قوات الأمن الفلسطينية الى المستوى الذي يمكنها من السيطرة الكاملة على القطاع بعد الانسحاب الاسرائيلي".
ويدحض هذا تذرعاً فلسطينياً وعربياً رائجاً بضعف قوات الأمن الفلسطينية (ويحمّل التبعة عنه الاحتلال الاسرائيلي) الى تسويغ شلل هذه القوات وإحجامها عن ردع أفراد "حماس" و"الجهاد" و"كتائب الأقصى" وفرقها عن القيام بأعمال عسكرية تؤدي الى تعثر المفاوضات والاتصالات المزمعة بين الاسرائيليين وبين الفلسطينيين. ويريد لها منظموها ومدبروها ان تؤدي الى هذا التعثر. وتصف رسالة الرئيس المصري هذا الضرب من الأعمال العسكرية, الانتحارية وغير الانتحارية, بـ"العمليات المشبوهة". وينسب إليها "تفاقم" الحال, وبعث الجيش الاسرائيلي على "التصعيد والعنف".
وصاحب الرسالة, ووسيطها من بعد, رعى طوال أشهر كثيرة مفاوضات "معقدة", على ما وصفت تعظيماً لشأنها وشأن المفاوضين, بين مندوبين عن السلطة الفلسطينية وبين المنظمات المسلحة "الجهادية". وفي مرتين انتهت المفاوضات "المعقدة" الى عمليتين انتحاريتين وقّتتا عشية لقاء أول بين محمود عباس وبين آرييل شارون, ولقاء ثان بين أحمد قريع, خليفة عباس, وبين شارون نفسه. وعلى رغم ان مبارك لا يحل الدولة العبرية من مسؤوليتها الثقيلة عن انفجار العنف ودوامه وتوالده, فهو يرمي بالتبعة عن تقصد التعثر والعرقلة على المنظمات "الجهادية", صاحبة التوقيت والتخطيط.
ويحذر مبارك عرفات والمنظمات من تعريض "أبناء (مصر) من القادة والجنود والكوادر الفنية", المندوبين الى تأهيل قوات الأمن الفلسطينية وتدريبها, "لأي خطر يهدد حياتهم". ويغمز التحذير القوي من قناة مراوغة تقليدية تنسب الى "عناصر غير منضبطة", بحسب عبارة رائجة بليت من الاستعمال في لبنان, المبادرة الى إيذاء قوات الفصل المتفرقة في المنازعات المحلية الأهلية أو في الحروب الاقليمية. وغالباً ما تتولى هذه العناصر, الشديدة الانضباط, مهمات يصدر الأمر بها عن سلطة "مركزية". وتتولى القوة المصرية, ضمناً, ضمان أمن عناصر أمنية وفنية وإدارية أخرى, من دول غربية, تشاركها مهمتها التأهيل والفصل والمراقبة.
وتترك الخطة المصرية مسألة الخطوة الأولى, انسحاباً إسرائيلياً أو تعهداً فلسطينياً (تضمنه مصر) بترك العمليات الانتحارية ("ضد المدنيين دون تمييز" بحسب احد بيانات القمة العربية خبرة بتونس, على رغم التأويل السوري المخالف والمناقض, معلقة, إستباقاً لمزاعم حماسية وجهادية وكتائبية و"عرفاتية" متوقعة. وتسكت الخطة, مراعاة لياسر عرفات وماء وجهه, عن مرحلة جوهرية من مراحلها المضمرة ينبغي ان تؤدي الى توحيد أجهزة الأمن الفلسطينية المتناسلة, وحصرها في ثلاثة لا غير, الخارجي والداخلي والخاص (بالرئاسة). فتحول بين الرئيس الفلسطيني وبين التوسل الجانبي بأجهزة متوارية وكثيرة الفروع الى مناقضة سياساته المعلنة من غير تحمل التبعة عن أفعاله. ويتوج توحيدَ الأجهزة الأمنية إيلاءُ اللواء نصر يوسف وزارة الداخلية, على نقيض موقف سابق كان سبباً, في جملة أسباب, في تخلي عباس.
ويتستر الرئيس الفلسطيني على مخالفة الخطة المصرية, أو المسعى المصري, مزاعمَ سابقة في مسائل كثيرة تتعلق بالهدنة والمفاوضات و"خطة الطريق". فينبري, من طريق بعض المقربين إليه, الى القول ان الدور المصري "سيقتصر على وجود مجموعة من الخبراء المصريين والعرب لإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية التي توحدت...". وانبرى هو مباشرة من منبر تلفزيوني إسرائيلي, إلى تعليل إخفاق المنظمات "الجهادية" في إنجاز وعدها بعمليات انتحارية "مزلزلة", غداة اغتيال بعض قادتها, بدوره ودور اجهزته, وحؤوله, وحؤول اجهزته, بين المنظمات وبين ثاراتها الموعودة.
وعلى الجملة, ترجع الهيئات الفلسطينية السياسية, الرسمية وغير الرسمية, ومعها هيئات عربية راجحة, على أطراف الأصابع, او خلسة, عن سياسات محورية كانت الى وقت قريب "ثوابت" لا رجوع فيها. وسوغت "الثوابت" هذه ترك الفلسطينيين يتخبطون في منازعاتهم وعجزهم عن المفاوضة والوفاء بالتزاماتهم, وأولها التزام السيطرة على المنظمات "الجهادية" وأعمالها التي تدين الفلسطينيين إدانة أخلاقية وسياسية قاطعة.
وبدل ان تتولى السلطة الشرعية الفلسطينية المفترضة, بمؤازرة عربية ودولية, إضعاف المنظمات "الجهادية" ومحاصرتها المعنوية والمادية, والرد على ابتزازها السياسات العربية الغالبة (وأبرز منجزاتها خطة مؤتمر القمة ببيروت في آذار/ مارس 2002, على رغم تلك بعض الدول), ماشت السلطة المنظمات. وكانت الأجهزة السرية والفرعية آلة المماشاة ووسيلتها. فتولت إضعافها (وربما تغذيتها من وجه آخر) القوات والعمليات الإسرائيلية المدمرة. وتترتب على تولي الجهاز العسكري الإسرائيلي إضعاف المنظمات "الجهادية", محل التيارات والحركات السياسية الفلسطينية نفسها, عواقب وخيمة وثقيلة, اجتماعياً وثقافياً وسياسياً. فهو ثمرة قهر, وليس نظيرَ التعليل والاقتناع التلقائيين والذاتيين اللذين لا يتماسك تغير مجتمع من حال الى حال إلا بهما ومن طريقهما. فلا يخلّفان, على خلاف القهر, مرارة وضغينة تغذيان التكرار والعود على بدء واليأس المدمر.
فترك الفلسطينيون نهباً لضعفهم عن صوغ سياسة وطنية جامعة تتولى دمج قواهم وتياراتهم وحركاتهم في جسم سياسي متماسك ومشروع (داخلياً ودولياً). وتركوا نهباً لأهواء وأموال سياسات و"شوارع" عربية وإسلامية مضطربة ومتقلبة ومتناقضة. فلم يحجز حاجز بين القوة العسكرية الإسرائيلية وبين إعمال الاغتيال والاعتقال والتدمير والتقطيع فيهم, وفي اجتماعهم. وحملُ هذه الأعمال على "العدوانية" و"العنصرية" الشارونيتين تعليل قصير. وتوقع تخطي نتائجها بعد وقت من الكمون تعلقٌ بحبال هواء.
فالأعمال هذه تؤتي ثمارها اليوم. وكان استباقها السياسي جائزاً ومستطاعاً, والوفر المعنوي والإنساني والاجتماعي (لو حصل الاستباق) كبيراً. وهي لم تؤت ثمارها إلا جراء الهزيمة المعنوية والأخلاقية التي ألحقها النهج "الجهادي" بالفلسطينيين, وبـ"الشوارع" العربية (و"دولها") من ورائهم. ويتولى النهج نفسه, في صيغ مختلفة في العراق وسورية ولبنان, الإعداد لهزيمة أشد وأقسى. - الحياة اللندنية -