لم يكن امام رئيس الحكومة الاسرائيلية ارئيل شارون إلا أن يقدم على اجراء استثنائي، صعب، وربما غير مسبوق، لانقاذ خطة الفصل من جانب واحد، التي عمل عليها ومن اجلها منذ يومه الاول في الحكومة.

من بين الخيارات الصعبة التي كانت امامه، اختار ان يضحي حتى القطيعة بحزب الاتحاد الوطني الذي يتمثل في الحكومة بوزيرين، ذلك انه ما كان ليمضي في حالة التردد والتسويف ريثما يهبط عليه حل لن تسعفه من اجله السماء، حتى يحافظ على تماسك ومصالح حزبه، وفي الوقت ذاته يحقق ما يريد، وما بدا انه مصمم على تحقيقه.

ومثلما كان المستشار القضائي للحكومة مزوز حاضراً قبل اسابيع لانقاذه من المثول امام المحاكمة بتهمة الفساد، كان هذه المرة حاضراً لمعاونة شارون في التغلب على وزير السياحة بني ايالون، الذي حاول التهرب من استلام الاستقالة، ما كان سيؤدي فقط الى تأخير اتخاذ القرار في اجتماع الحكومة يوم امس.

التفسير القانوني جاء بأن مهلة الثماني والأربعين ساعة لكي تصبح الاقالة نافذة او الاستقالة، هي مهلة للمقيل، او المستقيل، اي الشخص الذي اتخذ القرار، حتى يتسنى له العودة عنه اذا شعر بخطأ اتخاذ القرار، وطالما ان شارون هو الذي اتخذ القرار، وليس بنيته التراجع، وطالما ايضا انه عمل على ابلاغ الوزير بالاقالة، فإن تهرب الوزير، لا يمنع الحكومة من التصويت على اعتبار انها تتشكل من واحد وعشرين وزيراً وليس ثلاثة وعشرين.

سلوك شارون يفتقر الى الاخلاقية ازاء حلفاء من لحمه ودمه هو من رباهم، وهو من جلبهم الى تحالفه الحكومي، وأيضاً يفتقر الى الديمقراطية، انه يشبه سلوك القيادات التي تعكس عقلية التخلف الشرقي، والتي تخضع للانتقاد. لكن شارون صمم على ما يريد، وحزم امره باتخاذ القرار نحو اتمام الخطوة الاولى، وهي اقرار الخطة. والحقيقة ان شارون ما كان ليجازف الى ركوب مثل هذه المخاطرة، لولا قناعته الراسخة بأن خطوة الانسحاب من قطاع غزة، تنطوي على اهداف وايجابيات استراتيجية لصالح اسرائيل سيكتشف المفاوضون لها ربما بعد عشرة او خمسة عشر عاماً مدى اهميتها. وبالاضافة الى ذلك فإن شارون كان عليه ان يحافظ على المكتسبات الاستراتيجية غير المسبوقة التي حصل عليها من الادارة الاميركية عبر ما سمي بوعد بوش، الذي يعالج المخاوف الاسرائيلية الاساسية من اية تسوية كانت.

الادارة الاميركية التي كانت ولا تزال بحاجة الى مكسب ذي مغزى وأهمية، يعوض ويغطي فشلها وخسارتها في العراق وعلى مستوى العلاقات الدولية، هذه الادارة لم تعد قادرة على الانتظار طويلا، بينما تمضي الحملة الانتخابية لكي تحمل كل صباح اخباراً سيئة لبوش تؤثر على فرصه في الفوز.

وهذه الادارة باتت تشعر بالحرج امام القوى الاخرى المتحمسة لمعالجة ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، ذلك انها ذهبت الى ابعد الحدود في التميز لصالح شارون، وتقديم الخدمات له، دون ان تكون قادرة على حماية علاقاتها ومصالحها فيما هو مستمر في عملية احراجها واظهار تبعيتها له.

لذلك كان على الادارة الاميركية ان تمارس على شارون ضغوطاً خفية بداية، ثم علنية، تستهدف من ورائها زيادة تأثير الضغط وتحقيق توازن معنوي يناسب حاجة القوة العظمى في تأكيد نفوذها وسطوتها وفرض مواقفها.

الضغط الظاهر بدأ خلال الحملة الاسرائيلية على رفح، وأدت الى وقفها، وتغيير آليات متابعة تلك الخطة بأساليب وأهدافها بصخب اقل. منذ ذلك الوقت تابعت اسرائيل عدوانها على كل الاراضي المحتلة بتابع ولكن بوتائر عادية، لا تلفت النظر، رغم ان شارون كان بحاجة الى عمليات عدوانية قوية صاخبة للتغطية على مفاصل الفشل.

وخلال هذه الفترة امر شارون بالاستعداد لمتابعة بناء جدار الفصل العنصري وأخذت الجرافات تتحرك على الارض لتمهيدها من اجل مواصلة البناء. الجواب جاء من الولايات المتحدة يطالب اسرائيل بتأخير مواصلة البناء، وليحمل تأكيدات قوية على اهمية خطة الفصل، وكأنها تطرح للمرة الاولى. وفي الاطار ذاته اضطرت الولايات المتحدة لتذكير اسرائيل بخصوص تنفيذ الالتزامات التي تعهد بها شارون امام الرئيس بوش، بوقف البناء في المستوطنات واخلاء البؤر الاستيطانية ومنح تسهيلات في الحركة للفلسطينيين.

والحقيقة ايضاً ان الولايات المتحدة كانت مصممة على مواصلة العمل وكأن الخطة مقرة من قبل اسرائيل، اذ انهارت ودعمت وشجعت الترتيبات المتعلقة بالخطة المصرية لحفظ الامن بعد الانسحاب.

كان قبول الولايات المتحدة، ادخال تعديلات على خطة الشرق الاوسط الكبير التي ستطرح على قمة الثمانية الكبار، وبما يجعلها مقبولة لدى فرنسا، والدول الاخرى، كان ذلك مؤشراً على تراجع الادارة الاميركية وعلى مدى استعدادها للقبول بمشاركة الاخرى، عبر مساومات ادت الى الاعتراف بأولوية معالجة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بالتزامن مع خطة الشرق الاوسط الكبير.

الارجح ان تتابع الادارة الاميركية العمل مع اسرائيل بعد اقرار الخطة من اجل تنفيذ المرحلة الاولى منها بسرعة، حتى تصبح نافذة المفعول واقعياً، ولأن هذه الادارة تحتاج الى خطوة احتفالية ظاهرة يمكن الاستفادة منها داخلياً وخارجياً.

في هذا الاطار فإننا نعتقد أن ازمة الحكومة والسياسة الاسرائيلية لا تزال تتداعى وتتدحرج وربما تؤدي الى تفكيك الائتلاف الحكومي وإعادة تركيبه من جديد، الامر الذي لا يخلو من خسائر كبيرة قد تلحق بحزب الليكود، الذي يجتمع اليوم على مصلحة البقاء في الحكم، وعدم تقديم الانتخابات، حتى لا تؤدي الى تراجعه وخسارته للسلطة.

شارون اتخذ القرار، بعد ان شعر بالضغط الخارجي، وبالضغوط الخارجية حيث تزداد فعالية الاحزاب السياسية المؤيدة للخطة، ويتسع التأييد لها بين اوساط الجمهور الاسرائيلي، ولكن نجاحه هذه المرة، من شأنه ان يبقي الخطوات اللاحقة المرتبطة بالتنفيذ رهينة بقدرته على حل هذه الازمة، وتأمين الاستقرار للحكومة وهو امر مشكوك فيه. - الأيام -