هذا المقال ليس معنيا بالتأكيد على أن إسرائيل لن تنسحب أحاديا من قطاع غزة وإنما بتلك الأسباب التي تحول دون قيام إسرائيل بانسحاب أحادي الجانب من أي أرض عربية محتلة. لقد سبق أن نبهت إلى أن ما يتردد عن انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب غير صحيح لأن الفكرة غير منطقية ولا يمكن أن تكون مستصاغة لدى أي شخص يفكر أمنيا. لقد كانت المسألة زوبعة إعلامية تخص الرأي العام الإسرائيلي أكثر مما تخص أطرافا عربية ذلك لأن تسويق فكرة الانسحاب من غزة تشكل قضية كبيرة في إسرائيل بينما من المفروض أنها موضع ترحيب من قبل الجانب العربي. نقل الإعلام المسألة مقلوبة وذلك جريا وراء تصريحات السياسيين العرب والإسرائيليين بحيث ركز على الانسحاب على أنه تهديد إسرائيلي وموضوع رفض فلسطيني وعربي.

كان من الصعب القبول بفكرة الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب لأسباب عدة منها: أولا: لا يمكن لإسرائيل وفق نظريتها الأمنية أن تترك فراغا أمنيا إلا إذا أجبرت على ذلك. أي أن إسرائيل تعمل دائما على سد كل الثغرات التي تشك ولو باحتمال ضعيف جدا في أنها تشكل منفذا للإخلال بالأمن الإسرائيلي، وتوظف قدراتها الأمنية سواء الذاتية أو الامتداد الخارجي نحو هذا الهدف. هذا جزء من السياسة الأمنية الإسرائيلية وليس السياسة الأمنية الحزبية. الأمن بالنسبة لإسرائيل غير قابل للمساومة لأن انهياره يعني انهيار الدولة. فقط إسرائيل انسحبت أحاديا من جنوب لبنان تحت الضغط العسكري الذي شكل عبئا أمنيا معقدا لم تستطع تحمله.

صحيح أن إسرائيل واجهت منذ بداية عهد الاحتلال لقطاع غزة هموما أمنية كثيرة، وحاولت عبر السنوات أن تجد شريكا عربيا يحمل بالنيابة عنها ثقل ضبط الأوضاع الأمنية مقابل اتفاق يفضي إلى انسحاب. شكل القطاع عبئا أمنيا واقتصاديا كبيرا على إسرائيل وكان من أمنياتها أن ينشق البحر ويبتلع القطاع، لكن هذا الثقل لم يصل إلى درجة الخروج من القطاع بلا ضمانات يقدمها الجانب العربي. هناك مقاومة في غزة، لكنها ليست بتلك الحدة التي تجبر إسرائيل على ترك ثغرة أمنية يمكن أن تتسع مع الزمن.

تجد إسرائيل صعوبة كبيرة في القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة في الوقت الذي لا تدخر فيه جهدا لملاحقة هذه المقاومة، فهل من الممكن أن تصنع بيدها أجواء تنطلق فيها أيادي المقاومين لتطوير وسائلهم وأساليبهم القتالية؟ ولهذا لم يتوقف سعي إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة نحو إيجاد شريك عربي يقوم مقامها أمنيا.

ثانيا: عملت إسرائيل وأمريكا على تطوير قيادات فلسطينية عبر السلطة الفلسطينية تكون جاهزة في الوقت المناسب للقيام بدورها بشعارات وطنية رنانة. هذا أسلوب نعرفه نحن في الأرض المحتلة تماما ويبدو الحديث فيه غريبا بالنسبة للشارع العربي. من سياسات إسرائيل وأمريكا أنهما تستعملان المال ووسائل الإعلام لدعم أشخاص معينين على الساحة الفلسطينية في ذات الوقت الذي تشبعهم فيه هجوا علنيا. تشن إسرائيل أحيانا هجمة إعلامية ضد هذا أو ذاك بهدف تحسين صورته لدى الجمهور العربي، وفي ذات الوقت تسهل له الحركة والتنقل والحصول على المال. لكن في حال قطاع غزة، هناك صناعة علنية واضحة لقيادات فلسطينية. وقد صرح دحلان مثلا مرارا أن الفلسطينيين قادرون على ضبط الأمن في غزة.

المعنى أن السلطة الفلسطينية ليست بعيدة عن صورة الانسحاب الإسرائيلي. إلا أن المشكلة تتعلق بالثقة في السلطة من ناحية القدرة وليس من ناحية النوايا. أي أن إسرائيل لا تشكك برغبة السلطة الفلسطينية بالوفاء بالمتطلبات الأمنية الإسرائيلية وإنما بقدرتها من النواحي العسكرية والاجتماعية. لقد حاولت السلطة في السابق، لكن التيار الوطني العام الذي يخيم على الساحة الفلسطينية والأبعاد الاجتماعية لمحاولاتها قد حولاها إلى قزم متهم بالخيانة والعمالة لإسرائيل.

ثالثا: لم تتوقف الاتصالات الأمنية بين الأقطاب الخمسة المعنيين بتسريع انعقاد طاولة المفاوضات وهم إسرائيل والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية والأردن ومصر. إسرائيل وأمريكا تريدان شريكا أمنيا، والأطراف العربية معنية بإخراج الأمور بطريقة تبدو فيها أنها حريصة على المصلحة العربية. وهذه هي المعضلة الكبيرة التي طالما واجهت الجانب العربي. أي أن التنازل عن حقوق العرب والمسلمين لم يكن حقيقة العائق الأكبر أمام الجهات العربية المتعاونة مع إسرائيل وأمريكا وإنما طريقة الإخراج بقيت حتى الآن العائق الذي يصعب تخطيه.

لقد تحدث العديد من الكتاب العرب مرارا وتكرارا عن الدور العربي في المحافظة على الأمن الإسرائيلي، وأن الحل مع إسرائيل لا يمكن أن يتم فلسطينيا فقط. حتى أن قرار مجلس الأمن 242 لا يقيم سلاما بين إسرائيل والفلسطينيين وإنما بين إسرائيل والدول العربية. ولهذا بقي الدور العربي دائما حيويا ولو أنه تراوح بين العلنية والكولسة، ذلك لكي تبقى المسؤولية الأمنية مشتركة على المستوى الإقليمي والمحلي الفلسطيني.

رابعا: لا يتوقف الجانب العربي بشقيه الفلسطيني والنظام الرسمي عن التأكيد على استعداده للقيام بمهام الأمن وضبط الناس والتنظيمات في حال انعقاد طاولة المفاوضات أو التوصل إلى اتفاق. فهل يمكن لإسرائيل أن تلقي بهذا الاستعداد في القمامة في حين أن التجربة العربية أثبتت أن الأنظمة العربية أكثر كفاءة من الجهات الأجنبية في قمع الإنسان العربي؟ إنها تستخدم الآن جيوشا عربية لحراسة الحدود ومنع المقاومين العرب من التسلل، وتحققت من النجاح في القيام بالهمام الموكلة إليها، فهل تخرج من غزة الآن أحاديا وتدير ظهرها لمن يمكن أن يكون عونا لها؟

خامسا: يتفوق الطرح الإسرائيلي في الانسحاب من القطاع على خريطة الطريق، ولا يوجد أي منطق يبرر للذين يريدون التفاوض مع إسرائيل رفض المشروع الشاروني. شارون يريد أن يفكك مستوطنات وأن ينسحب، بينما لا تطلب خريطة الطريق تفكيك مستوطنات وتترك مسألة الانسحاب خاضعة للمفاوضات. مشروع شارون يختصر الكثير من الوقت والجهد بينما تتطلب خريطة الطريق العودة إلى المفاوضات. هذا في حين أن المتطلبات الأمنية الشارونية من الجهة أو الجهات العربية التي ستتولى الأمن لن تختلف عن متطلبات خريطة الطريق أو متطلبات أي اتفاق مستقبلي. سادسا: الولايات المتحدة معنية الآن بتحقيق تقدم على ساحة القضية الفلسطينية للتعويض ولو جزئيا عن إخفاق سياساتها في الوطن العربي. صنعت أمريكا لنفسها الكثير من الأعداء وتريد أن تغير من صورتها التي تزداد بشاعة. إسرائيل وأصدقاؤها العرب يحاولون فقط مد يد العون. - الحقائق -