ما بال الحب ضاع من حياتنا التي تحولت الى خشبة مسرح كبير، يؤدي كل منا الدور الذي يرتئيه مناسباً، بعيداً عن الأحاسيس الصادقة، والعواطف الجياشة؟. هل تحولت حياتنا الى مجرد علاقات عابرة، وترف ماجن يغتصب أحلامنا، وينتهك حرمات بيوتنا، شئنا أم أبينا؟. هل تحولت المرأة في عصر الفضائيات المصطنعة الى دمية للهو، أو مجرد حلم جميل يفتننا بجماله، ويأخذنا بمفاتنه، التي باتت تعرض على شاشات العرض الرخيص في الزمن الأميركي الرديء؟. ما هذا الذي يحدث داخل بيوتنا، وفي غرف نومنا وأمام أعين أطفالنا تحت عنوان الفن والثقافة والمساواة، حتى تحول الحب الى مجرد تسلية عابثة لمجموعة من السوقة والمارقين ممن بهرتهم ثقافة العالم؟. استمعت قبل أيام قليلة الى أحد قدامى الموسيقيين الذي خذله ما يشاهده على الشاشة الصغيرة من فن هابط وابتذال وتسويف لا معنى له إلا الانحطاط بقيم المشاهد وفكره وثقافته تحت عنوان "الأغنية الشبابية" أو " السريعة"، حيث قال: "إن التلفزيون المصري رفض لسنين طويلة السماح بتقديم المغني المصري الشعبي أحمد عدوية بسبب حركات يديه التي اشتهر بها، والتي رأى القائمون على التلفزيون في حينه أنها تمس بالذوق العام للمشاهد العربي"!! إذا كان أحمد عدوية يمنع لمجرد حركات يديه، فماذا نقول عن طوفان العري والابتذال والإسفاف الذي بات يعرض على معظم الفضائيات العربية ان لم يكن جميعها، والتي حولت الحب الى مجرد علاقة مجردة بين اثنين تحركهما الرغبة الشهوانية الحيوانية؟.

هل تحول الحب في زمن الفضائيات والأغنيات الماجنة الى مجرد عروض حية لفتيات في مقتبل العمر، أو رقص مبتذل يختلط فيه الحابل بالنابل، بحجة التطور الذي طرأ على الأغنية كما طرأ قبل ذلك على الشعر، فأصبح الكثير منه مجرد طلاسم و"كلام رص"؟. ما هو السبب في ذلك؟، هل هو طغيان المادة، أم الابتعاد عن القيم والمثل الدينية التي أصبحت مجرد شعائر لاعلاقة لها لدى الكثيرين ممن يؤدونها بالواقع المحيط بهم؟، أم أن "فرويد" هو السبب، فهو الذي قال: "إن الحب مات في القرن التاسع عشر". لقد تحولت في عصر الفضائيات الكتب التي كنا نقرأها عن الحب العذري، ودواوين الشعر العاطفي، والأفلام والمسلسلات الرومانسية الى مجرد خيالات قيمة أكل عليها الدهر وشرب، فالحب أصبح شيئاً تراثياً، لاوجود له إلا في كتب التاريخ والروايات القديمة، بعد أن تحول الى متعة حسية عابرة، وعلاقة سطحية بين فتاة وشاب. أليس هذا ما تزرعه فينا أغاني هذا الزمن الرديء؟.

في سنوات خلت، لم يكن للحب سوى معنى واحد، فقد كان يعني الكلمة ذاتها، يعني الحب ولا شيء آخر، ولكن هذا الحب الطيب الذي تغنى به شعراء العرب لفظ أنفاسه أخيراً بين الدراسات الجنسية التي قام بها فرويد وأتباعه حتى اليوم، حتى تحول هذا الحب من عنصر بسيط نقي الى عقد نفسية، وتعبير عن الكبت الجنسي، ورغبة مريضة تظهر في الأغاني الهابطة، والرقصات الخليعة، التي تقتحم علينا حياتنا. لقد أضحى جمال المرأة مهدوراً بين أغاني "الفيديو كليب" أو الأغاني الشبابية والأفلام المبتذلة والدعاية الرخيصة، فأصبح مشاعاً بأبخس الأثمان بعد أن كان عزيزاً صعب المنال، ذلك أن جمال المرأة يتطلب قدراً معيناً من الوعي الداخلي، والمرأة التي تتمتع بذلك تمتلك ميزة الموازنة، وكل شيء يتعلق بها يشع حول هذا التوازن، الذي يوفر للمرأة والرجل الحب الحقيقي الذي يتطلعان إليه بعيداً عن الإسفاف والابتذال. لا أدري كم عدد القنوات الفضائية المتاحة للناطقين بحرف الضاد من أبناء جلدتنا، ولا كم عدد المطربين والمؤدين والمرتزقة والدخلاء على الفن والغناء، لكنهم أصبحوا مثل الجراد ليس له أول من آخر، أو بداية ونهاية، فأتوا على ما تبقى من أخضر أو يابس في حياتنا، التي أضحت عبئاً علينا لكثرة ما ينوء بها من أوجاع وهموم، وتحولت المرأة بإرادتها واختيارها، أو ضلل بها الى عارضة للأزياء، وسلعة رخيصة، تستهوي الكبير والصغير، وضاع الحب بين طيات الكتب القديمة، وفي معلبات الأفلام السالفة. وحتى يكتمل المشهد، أرسل لنا الغرب حاضنات وفقاسات لاحتضان وتفريخ أشباه المؤدين والفنانين تحت باب دعم الثقافة والحرية والديمقراطية في العالم العربي، الذي لم يشهد هبوطاً وإسفافاً وانحداراً في تاريخه القديم والحديث، مثلما يشهده الآن، حتى في زمن الخلفاء الغلمان والخلفاء المخصيين. لقد انهار جدار الاحترام والمثل والقيم في عالمنا المادي، فتحول الإحساس الجميل الى تخلف، والصدق الى انطواء ورجعية، بينما اصطف النفاق والابتذال في المقدمة، يشهد لهم بالبنان، حتى لم يتبق من عالمنا الحقيقي إلا خيالات مرسومة على جدار الزمن القديم. لقد ضاع الحب الذي كان صمام الأمان للعلاقة الصحيحة الحميمة، وتحول من شعور بالإحساس والجمال واحساس بالراحة والأمن والسلام الى مجرد رموز جنسية، نصفق لها. قرأت فيما قرأت أن الشاعر الإنكليزي الكبير كنيسي عندما اقترب من الموت كتب يقول: "الشيء الوحيد الذي تأكدت منه في هذا العالم هو سمو العواطف وحقيقة الخيال..ان قلب المحب لا يدق عبثاً" . - الأيام -