القرار الذي انتهت اليه قمة الثماني, بدعوة اللجنة الرباعية الدولية للانعقاد قبل نهاية حزيران (يونيو) الجاري, يرتدي أهمية خاصة, لكونه يشكل إحياء للاهتمام الدولي بالصراع الاسرائيلي - الفلسطيني, وبما يتجاوز الانسحاب المؤجل من غزة.
وعلى رغم ان القرار جاء أضعف من الاستجابة المطلوبة لحدة التطورات الجارية, وكرس الامتناع عن إدانة السلوك الاسرائيلي على رغم توقف العمليات الفلسطينية, على رغم ذلك فإن هذه الدعوة للجنة انطوت على رفض اعتبار قرار الانسحاب من غزة انجازاً بحد ذاته, إذ ربطت تطبيقه ربطاً وثيقاً بإعادة الدينامية الى "خريطة الطريق" الأداة التي ستقود الى حل الأزمة, خلافاً للطرح الإسرائيلي القائم على اعتبار ان الانسحاب يمثل حصة الدولة العبرية في تطبيق الخطة الدولية التي تلحظ انسحابات من الضفة الغربية والقطاع على السواء, وإعادة الوضع في مرحلة أولى الى ما كان عليه قبل تشرين الأول (اكتوبر) 2000.
فإذا تم الربط ربطاً وثيقاً, بين قرار الانسحاب من غزة, وضرورة صدور قرار إسرائيلي آخر, بانسحاب من الضفة الغربية لا يقتصر على أربع سنوات معزولة, بل على انسحاب من المدن أو ما يعرف بالمنطقة "أ", فإن الالتزامات الدولية بتطبيق الخريطة تكون قد تحققت.
ومن هنا تبرز أهمية مخاطبة أطراف اللجنة الرباعية, بألا تتحول خطة الانسحاب المؤجل من غزة, الى تطبيق كامل ومزعوم لـ"خريطة الطريق", كما يريد شارون تصوير الأمور, وإشاعة الانطباع حول ذلك.
إذ انه بغير الإصرار على ذلك, ستكون الحكومة الاسرائيلية مطلقة اليدين, في وضع خطة طريق خاصة بها, على حساب الخطة الأصلية, ومع نيل الحمد والثناء من طرف الإدارة الأميركية.
ولا شك في أن المشاركة العربية في قمة "سي آىلاند", أسهمت في دفع الأمور, نحو الربط الموضوعي وإن غير المباشر, بين الدعوات للمشاركة والاصلاح, وبين احياء العملية السلمية. لكن هذا الاحياء ينبغي أن يتم وفق ارادة المجتمع الدولي, والمصالح المتوازنة للفرقاء, لا وفق أهـواء أو سيناريوات طرف واحــد, خصوصــاً أن هـذا الـطرف وهـو الاسرائيلي, بات يتجنب الحديث عن "خريطــة الطريـق" كما كانت عليه الحال من قبل, في عدم الاتيـان على ذكر 242, وحيث تسعى حكومة شارون لئلا يكون للعملية السلمية أية مرجعية دولية, وأن تقتصر هذه المرجعية على الليكود.
والخشية الآن من أن يؤدي ازدياد الجدل حول سبل تنفيذ خطة الانسحاب من غزة, الى التأثير السلبي بمعنى التشويش, على الاستحقاقات الواردة, في خطة الطريق الدولية, وهذا ما تسعى اليه الحكومة الاسرائيلية, وهو ما انساقت اليه واشنطن في الأشهر القليلة الماضية.
والآن وبعدما بدا من "اعتدال" الإدارة الأميركية في قمة الثماني, فالواجب يقضي ببذل جهود اضافية كي يأخذ هذا التحول الطفيف مداه, إذ ان "خطة الطريق" تتحدث عن 2005, كعام لإعلان الدولة الفلسطينية, فيما استبدل شارون ذلك الموعد, بجعله مناسبة لإنهاء احتلال غزة فقط. ان ذلك تطور مهم اذا تحقق, ولكن ليس هناك ما يبرر منح الاسرائيليين حق تطبيق أجزاء من الخطة فقط, وعلى هواهم, وإلا فإنه لن تكون هناك قيمة لأية رعاية أو التزامات أو مرجعية دولية, طالما ان الأمر منوط بتقدير القوة المحتلة وإرادتها دون سواها.
وفي سياق متصل, فإن التركيز الاحادي على غزة, من شأنه التعتيم على ما يجرى في الضفة الغربية, وخصوصاً مع مواصلة بناء جدار الضم والتوسع, فهل المطلوب هو الصمت على عملية السرقة الجنونية والعلنية هذه, حتى يتحقق الانسحاب من غزة! لقد طالب قرار قمة الثماني, من اللجنة الرباعية الدولية بوضع خطة لتطبيق ما ورد في بيان اللجنة الصادر في 4 أيار (مايو) الماضي. وكان ذلك البيان تحدث عن "القلق من مواصلة بناء الجدار الذي يمس بأراضي الدولة الفلسطينية المستقلة, وان على الأطراف ألا تلجأ الى أفعال احادية الجانب".
وهذه فرصة لتجديد الحملة ضد هذا الجدار, والمطالبة بإزالته لا وقف البناء فيه, فمن الواضح لكل ذي عينين ولمن يتمتع بحد أدنى من البصيرة, ان شارون يريد أن يقايض غزة بالضفة الغربية, وان يدفع الفلسطينيين دفعاً لإعلان دولتهم نهاية العام المقبل في القطاع!
وعليه, فإن مجرد الإعلان الدولي عن القلق من مواصلة البناء في الجدار, ليس كافياً أو مجدياً, وليس هناك ما يبرر هدوء الحملة الدولية على الجدار, والمنطق يقضي بالتعامل مع هذا الاجراء الحسي الملموس بما يستحق, بدلاً من الاكتفاء بالترحيب بإجراء لم يتم, كخطة الانسحاب من غزة.
ان الأطراف الدولية بما فيها الولايات المتحدة, تتخذ مواقف مبدئية صائبة, حيث ترحب بخطة الانسحاب من القطاع, وتربط بينها وتنفيذ "خطة الطريق", غير ان الاقتصار على ترديد هذه المواقف, بجعلها أقرب ما تكون الى مقاربات اكاديمية لا معالجات سياسية, إذ ان خطة الطريق لا تتحدث عن أربع مستوطنات معزولة في الضفة, ولا تتحدث بالطبع, عن "حق" الاحتلال في الاستيلاء على 58 في المئة من أراضي الضفة داخل الجدار.
والآن وبعد ان استنفدت الإدارة الجمهورية في واشنطن, سمعتها وصدقيتها في التغطية على شارون وفي التسويق المحموم لخطة الانسحاب المؤجل من القطاع, فإنه بوسع الأطراف العربية تذكير هذه الإدارة, بأن خطة الطريق لن تطبق من تلقائها, وبقوة دفع ذاتية تمتلكها, وان وقتاً طويلاً جرى تبديده, من دون الزام الأطراف بوضعها موضع التطبيق. وانه آن الأوان, لوضع برامج زمنية ملزمة, وآليات متفق عليها للتنفيذ, وانتداب مراقبين دوليين, وهو ما تقر بضرورته بقية أطراف اللجنة الرباعية, ومن ورائها العالم بأسره. وسوى ذلك, فإن خطة شارون لن تؤدي في واقع الأمر سوى الى تمزيق "خطة الطريق", والى محاصرة غزة من البر والبحر والجو بعد الانسحاب منها اذا تم الانسحاب, ما يوفر وصفة جديدة لاستئناف من الصراع وإدامته, وخصوصاً في الأراضي المقدسة, وهو ما يجب أن يدفع الأطراف الدولية, الى نبذ الوهم بالتعامل مع الأزمة, ببيانات القلق والمناشدة وترديد المبادئ العامة.
وليت الأطراف العربية مجتمعة, تتحدث بمثل هذا المنطق الصريح, فالأزمة في منطقتنا أشد سوءاً مما كان عليه الوضع في البلقان, وتيمور الشرقية وبعض المناطق الافريقية, وبعد أن تراجعت واشنطن عن رؤيتها الانتقائية في فرض مشروعها للاصلاح, وجعلت منه مشروعاً للشراكة والتعاون, فلا بد لها من أن تتراجع عن أخطائها القاتلة ازاء الملف الفلسطيني - الاسرائيلي, وأن تمنح فرصة كافية وملموسة للعدالة. - الحياة اللندنية -