منذ تسعة اشهر وهم يستعدون للرحلة التي سموّها حلماً . كانوا ملحاحين في متابعة إجراءات قدومهم إلى فلسطين، ولولا الإصرار والدأب لما تحقق ذلك الحلم . إنها كوكبة بشرية إسبانية من 85 شخصاً، تضم مؤسسات نسائية وفنانين وفنانات من فرقة الروح الإسبانية والمغنية الإسبانية الشهيرة مر سيدس فيرير والمغني تولي موريا، وتضم صحافيين بينهم خافيير كوسو شقيق الصحافي خوسيه كوسو الذي قتلته الطائرات الأميركية في بغداد، والصحافية اولغا التي رافقته أثناء المحنة.

جاء الوفد الإسباني الصديق" ليكسر الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني من قبل الحكومة الإسرائيلية"، وليخفف من المعاناة الفلسطينية "ما استطاع إلى ذلك سبيلا"، وجاء أيضا كي يخترق جدار الصمت الرهيب وليقول: لن نسمح أن تبقى إسرائيل فوق القانون .. ولا تحاكم أو حتى تساءل !! هكذا قالوا على لسان كرستينا رئيسة الوفد .

ومن وجهة نظر فلسطينية جاءوا في التوقيت الصحيح . فنحن بأمس الحاجة لمن يلملم عذاباتنا ويشد من أزرنا، ولمن يضيء شمعة وسط ظلامنا الدامس .

انتصر الوفد الإسباني لإنسانيته ولقيم الحرية التي انتهكها تحالف الحرب الذي يضم إسبانيا في صفوفه . حكومتهم ترسل الجنود الأسبان إلى العراق كي يزيدوا من عذاباتنا . وكوكبة الفنانين والصحافيين وناشطي حقوق الإنسان الأسبان جاءوا إلى فلسطين ليخففوا من عذاباتنا. هكذا، في كل أمة أمتان . انه الصراع المحتدم بين عولمة الحرب المتوحشة، وعولمة السلم الإنسانية،حيث هوى العالم بينهما .

جاء الوفد الإسباني ليعزز عولمتنا الإنسانية، وقد أعاد ذكرى تجربة المتطوعين الأمميين الذين هبوا من كل مكان لنجدة الشعب الإسباني من خطر فاشية العسكر . لا أقول إن التاريخ يعيد نفسه، فالتاريخ لا يعود إلى الوراء . التاريخ يجدد نفسه من خلال استلهام التراث الإنساني، وهو يحدث على أرضنا اليوم. بيد أن الوفد الإسباني سجل مأثرة كبيرة، حين عزز حركة التضامن والحماية الدولية للشعب الفلسطيني، في لحظة حرجة، حيث وصل مستوى الرقابة الدولية على العدوان الإسرائيلي إلى صفر كما يقول أحد الصحافيين الإسرائيليين .

النساء الإسبانيات استمعن إلى أمهات الشهداء في مخيم قلنديا وتبادلن معهن الدموع ونظرات الأمل . قالت إسبانية لفلسطينية "منذ الآن صارت قضيتنا واحدة، ولا يمكن فصل الدفاع عن حقوق المرأة وحريتها في إسبانيا عن حقوق المرأة الفلسطينية وعن حقها في الخلاص من الاحتلال" . وفي مخيم الدهيشة، انشد الاسبان للأطفال في الأزقة ، وكم كانت معاناة الأطفال "جاذبة" لدهشتهم، فمن يجرؤ على جلب التعاسة للأطفال غير المتغطرسين وقوى الظلام!! حاولوا أن يعيدوا البسمة بالغناء فأخذوا يعزفون ويغنون ويجذبون الأطفال من حولهم وكان لهم ما أرادوا، عندما صنعوا فرحاً -ولو مؤقتاً -لأطفال فقدوا أحبتهم موتاً أو اعتقالاً أو فراراً . وكان اكثر ما هالهم قدرة الأطفال على الخروج من أجواء الحزن والمعاناة .

ولسوء حظ الوفد انهم في الطريق إلى نابلس علقوا على أحد الحواجز العسكرية الإسرائيلية، واضطروا للمكوث ساعتين كانتا تكفيان للانتقال من إسبانيا إلى اكثر من بلد أوروبي . وقد صدموا وما اكثر صدماتهم عندما استمعوا إلى مواطنات ومواطنين امضوا 6 ساعات على نفس الحاجز ولم يسمح لهم جنود الاحتلال بالمرور . تساءل بعض الاسبان: ما علاقة مرورنا نحن، ومرور المواطنين الفلسطينيين إلي نابلس بأمن الإسرائيليين ؟ قال المرافق الفلسطيني : إنها سياسة العقاب الجماعي المخالفة لابسط حقوق الإنسان .حاول الفنانون أن يعالجوا الأمر بالعزف والغناء ، لكنهم لم يحركوا ساكنا في جنود الحاجز القساة، خلافا لنجاحهم الباهر مع أطفال وشبان الدهيشة .يبدو أن الجنود الذين يستجيبوا للموسيقى والغناء ، هم الجنود الذين رفضوا الخدمة العسكرية في الأراضي الفلسطينية فقط .

وفي قلقيلية، كم هالهم تحول المدينة إلي سجن كبير ببوابة واحدة وما ترتب على ذلك من تدمير للبنية الاقتصادية الاجتماعية للمدينة . قالت كرستينا بتأثر بالغ: "يجب أن يخجل العالم من نفسه، عندما يسمح لشعب أن يعيش كل هذه المعاناة تحت سمعه وبصره ولا يحرك ساكناً" .

وفي نابلس (البلدة القديمة)، توقفوا مطولاً عند الصبانة المدمرة التي تعود إلى 600 سنة خلت، وعند المعالم الأثرية الحضارية التي هشمها المحتلون، وكرر عدد من أعضاء الوفد سؤاله عن الأسباب والدوافع. وكان الحديث عن الأمن الإسرائيلي أو تكرار جملة "من اجل الدفاع عن أمن الإسرائيليين" وفقا للمسوغات الإسرائيلية المعلنة، يثير حنق الضيوف ويتحول إلى ما يشبه طرفة سمجة .

اضطر المضيفون إلى عرض أفلام وثائقية للعدوان الإسرائيلي في مختلف مراحله، من اجل إيضاح وتوضيح تجليات العدوان في حلقاته الأخيرة .لكن "الأفلام" التي شاهدوها في الواقع كانت ابلغ واشد تأثيراً. وهذا ما عبرت عنه رئيسة الوفد كرستينا عندما قالت : "ما رأيناه على ارض الواقع أقسى بكثير مما تنقله وسائل الإعلام عن معاناة الشعب الفلسطيني . الأمر فظيع ولا يصدق" . قال أحد الصحافيين الفلسطينيين مازحاً: سيتهمنا الإسرائيليون بتحريض الضيوف الاسبان ضد إسرائيل وسيتحول الموضوع برمته إلى "بند التحريض"وربما يتطور إلى اتهام الاسبان بمعاداة السامية . وقد تجد إدارة الرئيس بوش ضالتها في هذا الخرق الفلسطيني الأهوج! فتحمل الشعب الفلسطيني مرة أخرى، المسؤولية المباشرة عن فشل خارطة الطريق وعدم تمكين الرئيس بوش من ترجمة رؤيته إلى دولتين !! لكن أعضاء كثراً في الوفد الإسباني وصلوا إلى نتيجة مفادها انه لا يوجد من يحرض ضد إسرائيل غير الممارسات الإسرائيلية المرعبة التي فاقت الخيال . ليس هذا وحسب، بل إن ممارسة الإذلال والحط من كرامة الفلسطينيين وحرمانهم من مصادر العيش هي التي تدفعهم للمقاومة، والى بروز ظاهرة "العمليات الانتحارية" .

وكان مسك الختام في الأمسية الفنية التي قدمتها فرقة الروح الإسبانية للرقص في رام الله . المغنية كرستينا حاولت أن تقدم مبرراً للفعالية الفنية بالقول: إن هذه الأمسية جاءت من اجل إعادة الابتسامة والفرحة للشعب الفلسطيني الذي يعاني قسوة الاحتلال . إننا نعتمد الغناء والموسيقى والفن كأساليب نضالية . ونحن هنا نناضل بفننا .

ومنذ أن بدأوا بتقديم الأشعار الفلسطينية، تلمس الجمهور الفلسطيني المستوى الفني الرفيع والجاذب . قدموا أشعارا لدرويش على إيقاع العود والغيتار عدة مرات، وقدموا أشعارا لفدوى طوقان وتوفيق زياد على إيقاع العود والدف . وقدموا أشعارا لأبي سلمى على إيقاع "الأرغول" . وقدموا أشعارا على إيقاع الفلامنجو – موسيقى القدمين –. كان الإلقاء جميلاً وساحراً، وخيل للمشاهدين انهم استخرجوا رقة فدوى ،وحميمية زياد وصدق أبو سلمى واصالة وعمق درويش،وقدموا كل ذلك باللغة الإسبانية. تصوروا انهم جعلونا نحب الشعر الفلسطيني والشعراء الفلسطينيين اكثر من قبل، رغم عائق اللغة .

أما الأغاني والرقصات الإسبانية، فقد اختصرت اللغة ودمجت المغنين والراقصين بالجمهور وفي وحدة صادقة . وكان وجه الدهشة أن جمهورنا يتذوق ويتوحد مع الفن الرفيع، خلافاً للاعتقاد بأن ثقافة الفن الهابط هي الثقافة السائدة. تقول المغنية الإسبانية مرسيدس فيرير وهي من اشهر المغنيات في إسبانيا: إن الجمهور الفلسطيني هو الجمهور الأفضل الذي رأته منذ احترافها الغناء قبل سنوات، وتضيف: شعرت بالدفء الذي قابلني به الجمهور الفلسطيني ، وشعرت انه يجب أن نقدم المزيد .

لقد التقى المستوى الفني الجمالي الإبداعي (الإسباني) مع الحاجة والعطش الفلسطيني لعالم روحي . وكانت النتيجة الوحدة والاندماج . فغنى الفلسطينيون "بالإسبانية" وقدم الاسبان فنهم "بالعربية" وهذا يعني أن لغة الفن قد تكون واحدة، أو أن الفن يقدم نفسه بأكثر من لغة، وضمن أبعاد إنسانية وجمالية عميقة وهذا ما حدث .

وماذا لو قدم الاسبان عروضهم الفنية الجميلة في "جباليا وبلاطة وجنين وغيرها من الأماكن الحاشدة" ؟ اغلب الظن أن التفاعل سيكون اكبر بكثير، إلا إذا تدخلت جماعات التكفير . ولماذا لا يأتي فنانون ومثقفون عرب إلي الخندق الفلسطيني كي يفعلوا ما فعله الاسبان ؟الجواب الذي نسمعه دوما هو لأنهم ضد التطبيع . ولكن ماذا لو كانت النتيجة ، هي دعم صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ، ألا يعني ذلك عزل الاحتلال ،وهو طور أعلى في مقاومة التطبيع ،وفي هذه الحالة فان إسرائيل هي التي سترفض إعطاء التأشيرات كما فعلت مع عشرات المتضامنين الدوليين.لا شك في أن هذا الموقف يحتاج إلى نقاش جديد .

وفي الختام، لقد اجمل الاسبان زيارتهم على لسان رئيسة الوفد بالقول: أحسسنا أننا موضع محبة واحترام . أحسسنا أننا بين عائلاتنا وأهلنا .لن ننسى أبدا هذه الرحلة وسنرفع صوتنا للدفاع عن قضيتكم .

واجمل الفلسطينيون الزيارة على لسان د. احمد صبح بالقول: لم تكن اللغة عانقاً ونشعر الآن أننا لسنا وحدنا .