ليس هناك ما هو أبقى في الذاكرة مثل البيت الذي عاش فيه الإنسان في المدينة أو البلدة أو القرية التي فيها هذا البيت. وحتى إذا كان هذا البيت عبارة عن غرفة أو اثنتين فإن وطأة فقدانه أو الابتعاد عنه تبقى كثيرة الإيلام للنفس. وفي استمرار كنا نسمع من جيل النكبة الفلسطينية الأولى وبعدما استقر بهم المقام في الديار العربية أن في الحلق غصة وفي القلب حرقة على البيت الذي تركه هذا الفلسطيني أو ذاك هرباً من عدوان العصابات الصهيونية.. وكانت تلك غلطة كبرى استوعب خطورتها جيل ما بعد هزيمة 1967 واستوعب الخطورة أكثر وأكثر فلسطينيو زمن الانتفاضة الذين يرفضون مغادرة البيت والبلدة والأرض على نحو ما يريد الشارونيون ذلك ضمن مخطط التهجير لكي تخلو فلسطين من الفلسطينيين وتندثر الهوية الى الأبد.
وما حدث للفلسطينيين حدث للبنانيين والعراقيين والسودانيين ولآخرين كثيرين بين ديار الخليج وقفار المحيط وجدوا أنفسهم في لحظات فوضى أو إقتتال أو إقتصاص يتركون البيت والبلد ويغادرون إلى حيث في استطاعتهم العيش بالحد الأدنى من عزة النفس. ولطالما سمعنا من سوداني يقيم في إحدى المدن الأميركية أو الكندية أو البريطانية الكثيرة الرفاهية والرقي كلاماً يتحسر فيه أسى على نفسه لأنه بعيد عن البيت الذي يفتقد إلى كل وسائل العصر والواقع على شارع ترابي. وسمعنا الأسى نفسه من عراقيين ولبنانيين ومصريين يحلمون حتى في ساعات اليقظة بالبيت والحديقة الصغيرة والترعة والضفة على جانبي النيل وبردى والوزاني والفرات ودجلة ويتحدثون عن هذه الضفاف بمفردات عابقة بشاعرية عفوية ومن دون أن يستوقفهم أن ضفاف «الدانوب» و«التايمز» و«السين» وبحيرة جنيف هي ذروة الترتيب والرقي والنظافة على عكس ضفاف الأنهر والبحيرات العربية. وعندما كنا نقول أمام أحد من هؤلاء المهاجرين بالاضطرار وليس بالاختيار ما الذي يوجب هذا الحنين وأنت تنعم بما هو ليس متوفراً في بلدك؟ وهل من المعقول هذا الحنين إلى البيت الأبوي وتراب الشارع والهجير والمياه غير النظيفة ووسائل الترفيه البدائية بينما أنت هنا في العالم الأكثر تمدناً وتطوراً واحتراماً للذات تعمل وتتطبب وتتيح الفرصة أمام الأبناء والبنات من أجل أن يكون مستقبل كل منهم مضموناً... إننا عندما نقول ما أوردناه نسمع من أي من هؤلاء جواباً شبه موحد المفردات خلاصته أن من يفقد بيته الأبوي يفقد أعز ما لديه وأن التعلق بالبيت الأول هذا هو بمثل أن الحب الحقيقي هو للحبيب الأول.
يطول الكلام في الحديث عن هذه العلاقة الوجدانية بين الإنسان وبيته الأول وكيف أن هذا البيت يبدو بالنسبة إلى فاقدي الوطن أمثال الفلسطينيين هو فقدان الأمل في العودة.
ومناسبة هذا الكلام أن الدكتور جورج حبش الذي اصطلح رفاقه وعارفوه وقارئو سيرته على تسميته «حكيم الثورة» والمطلوب من سورية إبعاده مع آخرين وإلاَّ فإنها تكون ترعى الإرهاب ومن الضروري إعلان الحرب عليها، إلاَّ إذا هي اعتمدت السلوك الليبي الذي لا مثيل لمرارته على النفس، فَقدَ البيت الأبوي الذي وْلد فيه ونشأ قبل أن تحط الرحال به في بيروت طالباً في الجامعة الأميركية، ثم واحداً من زعماء الثورة الفلسطينية في زمن كان النضال الفلسطيني ظاهرة تستوجب التقدير. والذي حدث أنه في زحمة الاجتياح الشاروني للبشر والحجر والشجر بين القدس وغزة وفي استمرار الحصار للرمز الأعلى في السلطة الوطنية الفلسطينية ثم تطوير العدوان بحيث يشمل بناء «جدار شارون» على أرض الغير بمثل «خط بارليف» على أرض مصر ثم نهب المصارف في رام الله وبأسلوب مقتبس من مافيات نيويورك وشيكاغو وغيرهما... في هذه الزحمة أتى نبأ من الوطن المغلوب على أمره من جانب الضمير العالمي مفاده أن «دائرة أراضي إسرائيل» المسؤولة عن الأراضي التي استولت عليها الدولة العبرية بعد فرض هذه الدولة بفعل المؤامرة الدولية والأمر الواقع والتي، أي الأراضي، مملوكة من اللاجئين الفلسطينيين الذين غادروا الديار في زمن نكبة 1948، عرضت للبيع في مناقصة مطلع يناير من هذا العام بيت الدكتور جورج حبش في «اللد» للبيع وأن المناقصة رست على يهودي مغربي قام بتحويل بيت «حكيم الثورة» إلى بيت عصري بغرض طمس معالمه القديمة. كما ان بلدية اللد تشجيعاً منها لليهودي المغربي قامت بشق شارع جديد بالقرب من البيت كي لا يشقى الشاري في الوصول بمثل ما كان يشقى اهل جورج حبش ويشقى معهم.
عندما تأملتُ في هذه الواقعة عادت بي الذاكرة إلى ما سبق سماعه من الدكتور حبش يرويه عن البيت الأول في اللد وذلك خلال واحدة من جلسات حوار طويلة معه قبل ثمان وعشرين سنة، في واحد من «بيوته» العابرة في الشتات، انتهت كتاباً حول قصة حياته نشرتُه عام 1984. ولقد فاجأني، وهو الذي كان حديث العالم زمنذاك وبالذات لأن عناصر من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي أسسها بدأت عملياً، وقبل اسامة بن لادن بسنوات، أسلوب التحدي الفعلي للولايات المتحدة ودول أوروبا من خلال خطف الطائرات وتفجير بعضها في «مطار الثورة» في الأردن، أنه يتحدث بوجدانية وحنين إلى بيته في اللد بمثل وجدانية وحنين كل الذين أشرنا إلى حالاتهم وكيف أنهم وهم في البيت المريح في ديار الاغتراب والشتات يذوبون شوقاً إلى البيت الأول... حتى إذا كان عبارة عن غرفة أو غرفتين بمثل بيت جورج حبش. ولا بد أن القارىء سيشاركني المفاجأة والدهشة وهو يقرأ هنا ما سمعتُه قبل 28 سنة من «حكيم الثورة» عن بيته. ومما قاله متغنياً بالبيت الذي انتهى بعد ذلك الحوار معه بحوالى ثلاثة عقود مُلكاً ليهودي مغربي ليفقد بذلك «حكيم الثورة» ملكية البيت بعدما أفقدوا بني قومه وأفقدونا معهم أحقية الوطن. وما قاله كان الآتي:
«إنني وأنا أتحدث معك الآن ترتسم في ذهني صورة اللد وصورة يافا وصورة القدس. اتذكَّر بيتنا في اللد الذي كان عبارة عن غرفة واحدة مبنية ننام فيها. وأمام الغرفة مصطبة، ثم قطعة أرض صغيرة. اتذكَّر شجرة التوت العالية أمام بيتنا والتي كنا ونحن صغار نتسلق لنأكل من ثمرها. اتذكَّر أيضاً شجرة اللوز، وغرسة الورد والفلة الصغيرة أمام المصطبة. اتذكَّر بيوت الخشب وحائط الصفيح الذي كان يفصل بيننا وبين جيراننا. اتذكَّر جيراننا آل حنحن وآل سيف الدين. اتذكَّر الشارع الرئيسي في مدينة اللد والشوارع المتفرعة. اتذكَّر الطريق التي كنا نمشي عليها لنصل الى المدرسة الابتدائية. اتذكَّر المدرسة نفسها بمدخلها وسُلَّمها وبوابتها وبابها. اتذكَّر مدير المدرسة توفيق أبو السعودي كيف كان يمشي وكيف كان يخاطبنا. اتذكَّر سوق المدينة والشارع الذي يؤدي إلى السوق. معالم الدكاكين واضحة الآن في ذهني كما لو أنني هناك الآن. انني أرى اللد في هذه اللحظة بالوضوح الذي أرى فيه حي صبرا حيث نحن الآن، أو مخيم شاتيلا. (إثنان من مخيمات اللاجئين الفلسطينية في لبنان). «واللد ليست قرية، كانت مركز لواء، ولذا فهي أقرب ما تكون مدينة صغيرة. للمناسبة اتذكَّر نكتة كانت شائعة في ذلك الوقت وخلاصتها «إن اللد هي الدولة الثامنة» على أساس أن سبع دول خاضت الحرب وأن اللد كانت تعتبر نفسها، أو على الأصح يعتبرها سكانها، دولة قائمة بذاتها.
«إن اللد في الواقع هي إحدى المدن الصغيرة في فلسطين. وهذه المدن هي: الرملة، صفد، رام الله، جنين. أما المدن الكبرى فهي القدس ويافا وحيفا. وميزة أهل المدن الصغيرة في فلسطين أنهم أكثر التصاقاً بالأرض والوطن ربما لأنها مدن زراعية. والذي يعيش من الأرض يكون أكثر تمسكاً بها من غيره.
«وأتذكر الآن كيف كنا ننظر إلى بعض عائلات اللد من الأغنياء. لم نكن في ذلك الوقت نعرف الكلمات التي أصبحت معروفة بعد ذلك، «إقطاعي» و«بورجوازية». ولذا كنا نطلق على هؤلاء وصف «الكبار» وكنا نحن «الصغار» نشعر بعقدة حيال هؤلاء. و«الكبار» هؤلاء كانوا إما أصحاب متاجر أو مُلاَّك أرض.
«الأكثرية في اللد من المسلمين. وعموماً إن المسيحيين في فلسطين أقلية. وفي أي حال إن الطائفية في فلسطين ليست حادة. وكان الجميع يلتقون في وجه الخصم المشترك. كان هناك بالفعل تعايُش. وإلى حد ما كانت العادات والتقاليد واحدة».
طال حديث الذكريات مع «حكيم الثورة». وقصة حياته في مجملها تشكل إجابة عن السبب الذي يجعل الفلسطيني يستعذب الاستشهاد عندما يُستلب منه الوطن ويْرفض مطلبه في حق العودة، وفي أن تكون له دولة على بعض الوطن ولها عاصمة فيها الحرم الثالث، ثم يبدأ الجرف والاغتيال والتدمير والحصار وبناء الجدار والتملص من كل الاتفاقات، واستعماله ورقة رابحة في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبما يكون مردود هذه الورقة لمصلحة إسرائيل وضده كإنسان صاحب حق مسلوب. ولو أن الدكتور جورج حبش ليس في الوضع الصحي الصعب ويخطو نحو الثمانين لكان انتسب إلى ركب الاستشهاديين وهو يتبلغ بأن حتى البيت الصغير في اللد قد انتهى أمره إلى يهودي مغربي سيتباهى بأنه بات يملك بيت «حكيم الثورة» الذي طالما كان يحلم بأن «الجبهة الشعبية» ستقوده إلى فلسطين المحررة فإذا بالأمور تسير في اتجاه فقدان الوطن وبعثرة القضية وضياع البيت. عن: "الشرق الأوسط"