في الوقت الذي كان فيه القادة العرب منهمكين في قمتهم في تونس في صياغات إنشائية لا تقدم ولا تؤخر كان هناك رجل دانماركي يدعي بيتر هانسن مسؤول وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين (الأونروا) يقوم بجولة تفقد و معاينة في مخيم رفح جنوب قطاع غزة للوقوف بنفسه عما خلفه العدوان الاسرائيلي من دمار للبيوت والبنية التحتية وتشريد لمئات الفلسطينيين الذين أفلحوا بالنجاة بأنفسهم فيما لم يتمكن من ذلك غيرهم ممن ذهب ضحية قنص جبان أو قصف لمظاهرة سلمية أو حتي هدم لبيوت علي رأس أصحابها.
مفارقة معبرة بين مشهدين: مشهد من يفترض أنهم هبوا إلي هناك قبل غيرهم لكنهم فضلوا مواصلة إدمان كتابة البيانات والمواثيق والاعلانات التي يعلمون هم قبل غيرهم أن لا معني لها ولن تغير من حال العرب شيئا، ومشهد من يعمل في منظمة دولية الكل يعرف حدود تحركها وضائقتها المالية ومع ذلك جازف وكابد للوصول إلي هؤلاء الناس في محنتهم فتحدث معهم وواساهم ولم يستطع أن يمنع دمعة الانسان من أن تنزل من عينيه.
هانسن لم يكن كذلك شيطانا أخرس فتحدث بكل جرأة عما شاهده بل ولم يتردد في تشبيه ما جري لرفح بما جري لجنين قبل عامين وفي تسفيه الاسرائيليين عندما أنكروا جرف بيوت وهدمها وأصحابها بداخلها. فعل ذلك وهو يعلم علم اليقين ما الذي يمكن أن ينتظر موظفا دوليا من سخط و انتقاد من قبل الاسرائيليين والأمريكيين الشيء الذي قد يعني مستقبلا حرمانه من أي مسؤولية في مثل هذه المنظمات الدولية لأنه غير محايد أو متعاطف مع الفلسطينيين وهي شبهة كم هم كثر من يسعون لدرئها عن أنفسهم. لم يستطع هانسن ومن دخل المخيم معه سوي حمل قوارير المياه وحليب الأطفال تلهف عليها الأهالي تلهف المنهكين في مخيمـات الجوعي في رواندا أو الصومال علي حد تشبيه أحد أعضاء الوفد.
ولم يكن هانسن وهو يري حرقة العجائز والنساء وغليان الرجال وتيه الأطفال بغافل عما تعانيه (الأونروا) من عجز مالي هائل، لذا لم يعد بما لا يستطيع تنفيذه ولم يبع هؤلاء المكلومين وعودا فارغة شبعوا منها لسنوات طوال، حاول فقط أن يساويهم في حدود طاقته فهو الذي سبق أن أعلن أمام العالم كله أن منظمته تعاني الآن عجزا يبلغ ثلاثين مليون دولار لاعادة بناء المساكن التي هدمها الجيش الاسرائيلي خصوصا في مخيمي رفح وخان يونس جنوب قطاع غزة فعدد هذه المساكن حسب احصائية عامة اعدتها الانروا حول المنازل التي دمرها الجيش الاسرائيلي في مخيمات قطاع غزة للاجئين بلغ 14852 منزلا كما أن المنظمة وجهت نداء استغاثة إلي كل العالم بداية هذا العام بضرورة توفير مئة وثمانية وتسعين مليون دولار لم تحصل منها إلا علي النزر القليل.
وفي الوقت الذي تقول فيه الأونروا أنها قامت ببناء ثلاثمئة منزل وهناك اربعمئة منزل قيد البناء في ظرف واضح أن ما يدخل فيه من اموال لإعادة البناء هو اقل بكثير من عمليات الهدم الاسرائيلية المستمرة لم نسمع عن مشاركات عربية في هذا المجهود سوي ما قامت به الامارات العربية المتحدة التي أوفت بما تعهد به الشيخ زايد قبل عامين بالنسبة لإعادة بناء مخيم جنين وأبدت استعدادا واضحا هذه المرة كذلك لتحمل قسط كبير في عملية إعادة بناء ما دمرته آلة الحرب الاسرائيلية العمياء التي باتت لاإنسانيتها تثير قطاعات متنامية داخل المجتمع الاسرائيلي نفسه من نخب ووزراء علي غرار ما صرح به وزير العدل مؤخرا.
كان يمكن لدولة مثل مصر بالخصوص أن تكون هي المبادرة بزيارة كتلك التي قام بها هانسن لأن ذلك أضعف الايمان لبلد يجري كل ما يجري علي حدوده و لمواطنين كانوا حتي وقت غير بعيد تابعين لإدارتها، ولكننا كدأبنا دائما لا نجيد لا إغاثة الملهوف ولا حتي كفكفة دمعه التي تكفل بها أناس أجانب محترمون من أمثال بيتر هانسن فألف تحية له.. فمثل هذه الحركات هي ما يسجله التاريخ. - القدس العربي -