بالنسبة لأناس يتحرقون للتطور الديموقراطي داخلياً والتحرر من الاستعمار الخارجي, كان المنتظر أن يستقبل مواطنو الضفة وغزة عملية تسجيل الناخبين بمشاعر الفرحة. ذلك لأن هذه العملية التمهيدية, الضرورية للانتخابات بمختلف مستوياتها, تفتح الآفاق موضوعياً على هدفي الديموقراطية والتحرر, احدهما أو كلاهما معاً. كيف؟

في الجدول الداخلي الفلسطيني حول الديموقراطية, تشغل الانتخابات مكانة متقدمة. إذ لا ديموقراطية من دون انتخابات حرة من القاعدة إلى القمة. وأحد المحكات الرئيسية لمستوى الأداء الديموقراطي للانتخابات هو حجم المشاركة الشعبية فيها... وذلك بالإقبال على السجلات الانتخابية أولاً ثم بالتصويت تالياً.

كأن إقبال المواطنين على قيود الناخبين من أبرز تجليات الشوق إلى مباشرة الحقوق المدنية والسياسية, ارتقاء إلى المساهمة في صناعة القرار الوطني وفي محاربة التسلط والديكتاتورية على نحو عملي.

من جهة أخرى, فإن هذا الاقبال وما يعلنه من استعداد ايجابي للمشاركة, ينطوي على دلالات بالنسبة إلى هدف التحرر, فبالمعنى القريب والمباشر, يحتاج المجتمع الفلسطيني إلى ترتيب البيت الداخلي كلياً ووطنياً. الانتخابات الديموقراطية مدخل رحب لهكذا هدف, يمكنه حتماً تسهيل هذه المهمة وما يتأتى عنها من تعزيز للاصطفاف في المواجهة مع قوة الاحتلال. من خلال التدافع الانتخابي السلمي تُعاد أمانة الخيارات الوطنية في التعامل مع الاحتلال إلى صاحبها الشرعي, الشعب الفلسطيني. الانتخابات هي الإجراء, الذي إن تم بحرية وتحت رقابة صارمة في نزاهتها وحياديتها فسوف يتميز الخبيث من الطيب, بين القوى النشطة سياسياً وبين الشخوص أيضاً.

وتحديداً نعتقد بأن مثل هذه الانتخابات تمنح كل فرقاء الحياة السياسية الفلسطينية فرصة عرض برامجهم على الملأين الفلسطيني والخارجي. وبنتيجتها يكون الفلسطينيون قد أفصحوا عن مراراتهم إزاء مطلب التحرر الوطني... حدوده وأفقه ووسائل اجتراحه. لكن الأهم, هو كيف ستتلقى القوى الخارجية المعنية هذا "الإفصاح الديموقراطي"؟

هذا ينقلنا إلى المعنى غير المباشر لقضية الانتخابات والمشاركة فيها, فالتهيؤ الجاري على هذا الصعيد يبعث برسالة إلى رعاة التسوية عن الاتجاه الفلسطيني للوفاء ببعض استحقاقات "خريطة الطريق", الذي يستدعي منهم المساعدة على تشهيل القضية وملاحظة السلوك الإسرائيلي إزاءها وردعه عن الإضرار بها أو إعاقتها إن لزم الأمر. وفي هذا السياق ربما احتاج الفلسطينيون إلى موقف واضح من الرباعية الدولية (الولايات المتحدة, وروسيا, والاتحاد الاوروبي, والأمم المتحدة), يدعم اتجاههم هذا ويطمئنهم إلى حسن التعاطي معه. وتلح هذه الحاجة لجهة استطلاع الرؤية الاميركية بالذات بهذا الخصوص, لأن واشنطن لا تبدي رضاً عن انتخابات رئاسية فلسطينية قد تعيد تأهيل ياسر عرفات! وتحمل إسرائيل النيات ذاتها.

والحق أنه لو جازت النصيحة في هذا المقام, لقلنا إن الحكمة السياسية طويلة الأجل, بعيدة النظر, تُلزم التحالف الإسرائيلي - الأميركي بإطلاق العنان لانتخابات فلسطينية بأقصى طاقة من حرية التعبير والشعائر الديموقراطية. ففي أجواء كهذه ستتكشف حقيقة موازين القوى في المجتمع السياسي الفلسطيني, وستنجلي الصورة عن مدى الرفض والقبول لما يطرح من حلول للقضية الفلسطينية. ستضطر القوى المشاركة إلى لملمة أفكارها ورؤاها في أنساق وبرامج محددة, عوضاً عن الهيولية والفضفاضية التي تشوب خطابها الراهن. ومن أدرى تل أبيب وواشنطن وأدرانا, فقد تُقضى طمأنة الفلسطينيين بشأن حرية الاختيار, إلى نزول كل ألوان طيفهم السياسي للمختبر الانتخابي, بما في ذلك الذين قاطعوا عام 1996. وعندئذ, قد يتغير المشهد السياسي الفلسطيني ويخرج من جوفه من يأنس المعنيون إلى صلابة التسوية معه وديمومتها.

نبسط هذا الرأي ونحن ندرك أنه بعيد جداً عن المفهوم الإسرائيلي - الاميركي المشترك للانتخابات وللتسوية الفلسطينية على السواء, فكل النذور والمؤشرات المتوالية من تل أبيب وواشنطن على ضفاف الحدث الانتخابي الفلسطيني, توحي, بل تصرح, بأن المراد منه هو تصعيد نخبة قيادية تتواطأ مع التسوية المملاة بشروطها المجحفة بالحقوق الفلسطينية, تاريخياً وقانونياً... ولأن, سواء مواطني الضفة وغزة على دراية بذلك, فإنهم لا يُلامون على مقاربة القضية بعين الريبة والشك. ولا أدل على ذلك من ضعف الاقبال على مراكز تسجيل الناخبين غداة فتحها في الرابع من أيلول (سبتمبر) الجاري, الأمر الذي أزعج بعض مسؤولي السلطة, وحزبها حركة فتح خصوصاً, فراحوا يستحثون أنصارهم وعناصرهم على التسجيل.

قد يعود انزعاج بعض الفتحاويين ومتنفذي السلطة إلى أن الإحجام عن المشاركة يتعلق أكثر بأنصارهم, بما يهجس بضمور نصيبهم من الأصوات, ومن ثم المراكز البلدية قريباً (ثم التشريعية لاحقاً), وذلك في مقابل المنافسين لا سيما من حركة حماس التي قررت دخول المنازلة البلدية بكل قوة, وهي في وضع أفضل من حيث الانضباط التنظيمي والصدقية الشعبية. ربما يكون ذلك صحيحاً كما يهمس بعض الخبثاء, لكن ما هو يقيني بجدارة هو أن العزوف الشعبي عن مناسبة كانت جدلاً مدعاة للعكس, مرده إلى عدم الاقتناع بآلية الانتخابات المبرأة من التزوير والغش في وجود الاحتلال, علاوة على العداء المعلن من هذا الاحتلال وظهيره الاميركي الفاعل بكل المعايير ضد بعض القوى العاملة على الساحة الفلسطينية. ومن دواعي الأسى أن لهذا التخوف ما يبرره... اللهم إلا إذا ظهرت دلائل قوية تبشر بأن أصوات الناخبين ستصل الى غايتها مأمونة من العبث والألاعيب الانتخابية! - الحياة اللندنية -