لو أن اسرائيل ، وبخاصة في ظل هذا العهد وبقيادة حزب «الليكود» واريئيل شارون ، معنية فعلاً بسلام حقيقي مع الشعب الفلسطيني، لحزنت على ياسر عرفات أكثر من حزن شعبه عليه. فالسلام مثله مثل الحرب هو بحاجة الى قرار حاسم وحازم ، والقرارات الحازمة والحاسمة وبخاصة بالنسبة لقضية شديدة التعقيد، كالقضية الفلسطينية، بحاجة الى قائد صلب الإرادة ولديه الرغبة والقدرة معاً، وهذه الإمكانيات والمواصفات لا تتوفر إلا في هذا الرجل، في الماضي والحاضر والمستقبل القريب. لم يكن ياسر عرفات يناور ولم يكن هدفه دغدغة عواطف الإسرائيليين عندما كان يتحسر على إسحق رابين، ويقول انه أبرم معه إتفاق سلام الشجعان، ويصف اغتياله وتغييبه بينما العملية السلمية لا تزال عالقة في عنق الزجاجة ، بالخسارة الكبرى للشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي وكل الذين يعنيهم ان تنعم هذه المنطقة، بعد نحو مائة عام من الحروب والاضطرابات، بالتعايش والهدوء والاستقرار.

إن الشعب الذي أنجب عرفات قادر على إنجاب غيره، وبخاصة الشعب الفلسطيني الذي عركته التجارب وقدم التضحيات الجسام على مدى سنوات كفاحه الطويلة، لكن بما أن صنع القيادات التاريخية لا يتم في «مفارخ» كمفارخ بيض الدجاج ، وأن هناك عوامل وظروفاً هي التي تتظافر وتتكاتف لإنتاج القائد التاريخي المميز ، فإن ملْء الفراغ الذي سيتركه ياسر عرفات لن يكون سهلاً حتى على قيادة جماعية.

عندما بدأ ياسر عرفات كفاحه «الماراثوني» الطويل الذي بقي مستمراً ومتواصلاً لأكثر من نصف قرن، لم يكن في باله ولا في بال رفاقه الذين رافقوه في هذه المسيرة الطويلة ان هدفهم سيتقزم وسينحصر في إقامة دويلة مهيضة الجناح على جزء من ارض فلسطين التاريخية .. لقد كانوا يحلمون بتحرير فلسطين التي حدودها الناقورة في الشمال ورفح في الجنوب و« من البحر الى النهر» . وبالتأكيد فإن الهدف لم يكن قبل حرب يونيو (حزيران) عام 1967 ، لا فصل الضفة الغربية عن الضفة الشرقية، ولا رفع يد مصر عن إدارة قطاع غزة ، بل كان تحرير ما احتل من ارض فلسطين ، وهنا فإن على الباحثين الذين يريدون التأكد من هذه المسألة، ان يعودوا الى «أدبيات» حركة «فتح» والى قرارات المجالس الوطنية المتلاحقة ، بما في ذلك المجلس الوطني الأول الذي انعقد في القدس بمشاركة الأردن وحضور الراحل الملك حسين نفسه.

لقد كان هذا هو الواقع قبل حرب يونيو (حزيران) عام 1967 . اما بعد ذلك وبعد ان شمل الاحتلال الضفة الغربية كلها ومعها قطاع غزة كله ، فقد تبدلت الأحلام وتغيرت الأهداف وغدت الأولوية لتحرير ما احتل من فلسطين خلال هذه الحرب ، وتراجع هدف تحرير ما جرى احتلاله في عام 1948 وأقيمت فوقه دولة اسرائيل، بالنسبة لياسر عرفات وزملائه ورفاقه.

ولذلك فإن ياسر عرفات عندما خاض مـعركة من يمثل الشعب الفلسطيني ووافقه العرب على ذلك في قمة الرباط في عام 1974 ، فإنه أراد ان يحسم مسألة مَنْ سيفاوض الاسرائيليين على الاراضي التي احتلت في عام 1967 ، ومسألة ان منظمة التحرير التي هي :«الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين» هي الأحق بالتفاوض وبتسلم الأرض التي سيزول عنها الاحتلال ، بموجب هذه المفاوضات والتي ستقوم فوقها دولة فلسطينية مستقلة.

لقد راودت ياسر عرفات رغبة التفاوض مع الاسرائيليين والتوصل الى حل سلمي وسلام معهم في وقت مبكر بعد حرب يونيو (حزيران)، ولكنه امام زخم «المقاومة» التي كانت عنوان تلك المرحلة لم يجرؤ على الافصاح عن تلك الرغبة ، وبقي يتحين الفرص الى ان أصبحت الظروف ملائمة وسانحة ، وكان ذلك عشية حـرب أكتوبر (تشرين الثاني) عام 1973 ، فأعلن ان الهدف «المرحلي» للنضال الفلسطيني هو إقامة دولة (سلطة وطنية) في الأراضي التي احتلت في عام 1967 .

وبالطبع فإن معادلات تلك المرحلة وقيام جبهة الرفض، التي ضمت دولاً عربية مثل العراق وليبيا وبعض الفصائل الفلسطينية، والتي حظيت بدعم معلن من قبل سوريا، رغم انها لم تنضم بصورة رسمية الى هذه الجبهة، حالت دون ان يلتحق ياسر عرفات بالرئيس المصري السابق أنور السادات ، وان يدخل العملية السلمية من أوسع الأبواب .

لكن ومع ذلك ، ومع ان المعادلة الإقليمية والمعادلة الداخلية الفلسطينية لم تسمحا للرئيس الفلسطيني بالالتحاق بالرئيس السادات والعملية السلمية في ذلك الوقت المبكر ، فإن ياسر عرفات لم يتوقف عن تهيئة الوضع الفلسطيني للانخراط في هذه العملية قبل وخلال وبعد حصار بيروت ، وقبل وخلال وبعد حصار طرابلس الشهير في عام 1983 ، وهكذا وعندما أصبح الوضع مهيأً وحانت اللحظة المناسبة في عام 1992 بعد حرب الخليج الثانية مباشرة ، لم يتردد (أبو عمار) في الذهاب الى مؤتمر مدريد ، ثم إبرام اتفاقيات أوسلو والاستمرار بعملية السلام في كل المحطات اللاحقة.

لقد وفر أبو عمار الحماية ليهود (وادي أبو جميل) في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية من قبيل إبداء حسن النوايا، والرغبة للسلام مع إسرائيل والتعايش معها، ولقد سمح بفتح قنوات مع «اليسار الاسرائيلي» انسجاماً مع هذه الرغبة ، وسمح لعدد من المسؤولين الفلسطينيين ومن بينهم الدكتور عصام السرطاوي بقرع الأبواب الاسرائيلية من أجل هذه الغاية، وقبل بكل وساطات تلك المرحلة بما في ذلك الوساطات الأوروبية لإبرام سلام حقيقي وفعلي ودائم مع إسرائيل.

وهنا فإن ما لا يعرفه حتى بعض المسؤولين الفلسطينيين ان عرفات الذي كان يتحين الفرص للصعود الى قطار السلام ، كان قد أبلغ الرئيس السادات قبل شهور من السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1981 بأن هناك خطة لاغتياله ، وأن الذي يشرف على هذه الخطة ضابط مصري فرَّ من الجيش المصري ، واختفى عن الأنظار ليتفرغ لعملية الاغتيال ، لكن الرئيس المصري السابق لم يأخذ هذه المعلومات على محمل الجد ، مع انه تحدث عن هذا الضابط الفار في إحدى خطبه في ذلك الحين .

لقد أضاع الاميركيون على مدى ولاية جورج بوش الإبن الأولى فرصة ذهبية لإحراز خطوات فعلية متقدمة على طريق حل أزمة الشرق الاوسط، ولقد ساهموا من خلال العزل الذي فرضوه على ياسر عرفات خلال السنوات الثلاث الأخيرة، في مساعدة اريئيل شارون على التهرب من عملية السلام ، والقول إنه لا يجد شريكاً له على الجانب الفلسطيني لاستئناف هذه العملية.

لم تدرك إدارة بوش الإبن أهمية رجل بقدرة ياسر عرفات ، ورغبته لحل قضية تاريخية معقدة كالقضية الفلسطينية، فسارت وراء اليمين الاسرائيلي المتطرف، وتبنت مواقفه وسياساته وأكاذيبه ، فكانت النتيجة إضاعة فرصة سانحة ربما لن تتوفر مرة اخرى خلال الفترة القريبة المنظورة بعد غياب عرفات.

لا شك في ان بعض القادة الفلسطينيين ساهمــوا مساهمات رئيسية خلال مفاوضات اوسلو وقبلها وبعدها ، ومــن بين هؤلاء محمود عباس (أبو مازن) وأحمد قريع (أبو علاء) ، لكن ما يجب ان يكون معروفاً هو ان كل هذا جرى تحت إشراف ياسر عرفات ، فالقرار الحاسم كان قراره وليس غير قراره .

والآن، وقد حدث ما حدث، فإن على الاميركيين أولاً ، وعلى الاسرائيليين ثانياً ، ان يدركوا ان ياسر عرفات سيبقى صاحب القرار الاول في الساحة الفلسطينية حتى وإن غيّبه الموت ، فالقيادات التي ستخلفه لن تستطيع ، ولبضع سنوات على الأقل ، ان توافق على ما رفضه في كامب ديفيد الثانية ، وان تتنازل عن بعض ثوابته ، فنهجه سيستمر، وسيتحصن المتشددون، إنْ من داخل الأطر الفلسطينية القائمة أو من خارجها ، بهذا النهج لمواجهة أي تنازلات جديدة غير التنازلات السابقة . - الشرق الاوسط -