وداعاً يا أبا الرجال ...
إنهم يخشون الأقوياء ..
وسنبقى على العهد ماضون ..
بسم الله الرحمن الرحيم
" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا "
" و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " صدق الله العظيم
لقد تلقينا نبأ استشهادك.. أخي أبا عمار.. بقلوب يعمرها الإيمان بقدر الله وقضائه .. نودعك وإنا لفراقك يا أبا عمار لمحزونون .. نودعك بقلوب يسكنها الإصرار الملتهب على مواصلة المسيرة ودرب النضال والمقاومة ...!!
رحلت عنا وترجلت بشموخ الشهداء .. ملتحقا برفاقك وإخوانك الذين سبقوك .. ترجلت بعد أن شكلت في المعادلة رقما صعبا وتحدياً كبيراً .. تاركا خلفك شعبك يحفظ القسم والعهد.. مستمرا بنضاله ومقاومته جيلا بعد جيل .. وداعا أيها الشهيد الأب والأخ والصديق ..
وداعا.. شهيدا.. أباً ، معلماًً ، زعيما، رئيسا، قائدا، رمزا، فدائيا ، مناضلا ثائراً ..شهيد الأقصى وشهيد فلسطين .. أبو عمار..
تركتنا والملايين من أبناءك مازالوا بحاجة إليك.. الذين مازالوا يسكنون تحت صفائح الزينكو في مخيمات البؤس وينتظرون العودة.. فأنت الضمانة والمرجع المؤتمن على حقوق شعبك.. بحاجة لصوتك الذي يردد دائما.. للقدس رايحين شهداء بالملايين !!
تتركنا وقاتلي إيمان حجو وفارس عودة .. خفافيش الظلام.. ما زالوا يعيثون في الأرض فساداً .
نشتاق إليك ..إلى صدقك وصمودك وشجاعتك واستبسالك . وداعاً يا ختيار وأنت ترفض التسليم بالحلول المنقوصة . التحقت أبو عمار بالرفيق الأعلى، لتنضم إلى كواكب الشهداء، وتصافح أبو جهاد و أبو إياد والشيخ احمد ياسين وأبو علي مصطفى والشقاقي أبوشنب والرنتيسي وبقيه شهداء الشعب الفلسطيني المجهولين.
لقد خسرناك قائداً ، ورمزاً ومعلماً وسياسياً، ومناضلاً ، كما وخسرناك أخا وأبا وصديقاً، ولم تترك شاردة ولا واردة تخص شعبك إلا وعالجتها بلمسة حب وحنان.
رحلت لتبقى حياً فينا...أسطورة عشت زاهداً بين الدين والقضية العادلة .. وبكتك ملايين العيون...
لقد كنت أسطورة صنعتها بنفسك.. الأب الملهم للعطاء وشحذ الهمم ..مالك القلوب.. المناضل والسياسي والإعلامي المتخصص .. ليس كمثلك في زعامة وقيادة شعبه أحد .
لقد أتيت من رحم شعبك، والتصقت به وأحسست به.. وأصبحت قائدا وزعيما ورمزاً وأسطورة.. عربيا فلسطينيا تاريخيا .. تحملت وعانيت فناضلت وانتصرت .. فلم تكن للزعامة وارثا، ولا أتيت محمولا على دبابة الأجنبي، أو عبر انقلاب عسكري، وإنما أتيت فدائيا مجاهداً مقاوماً.. وشعبك من حولك.. وحملت البندقية في وجه المحتل، في وقت كان فيه حمل السلاح محرماً..
فقد كنت فاكهة شعبك، وأعطيت للقيادة لوناً متميزاً، إبداعياً متخصصاً، وحضنت شعبك، وكنت عنوان وحدته وصمام أمانة، وحريصاً دائماً على لملمة الجراح، والقادر على لمّ الشمل، لا تتعب ولا تمل، وكانت عيونك دائماً متجهة إلى فلسطين، لم تكن أبداً حاقداً، وتركت الأبواب كلها دائما للصلح والمصالحة مفتوحة مشرعةً ..
لن تسقط كوفيتك الفلسطينية، رمزاً للصمود والتحدي، والإرادة الصلبة التي لا تنكسر..
تبتسم وتصافح...تعانق وتقبل الجميع...مؤمن بربك لاتعرف الخوف، لأنك تدرك أن الله معنا، وتدرك أيضاً، أنك تقبض على جمرة من نار، فلم نعرفك إلا مستنفراً، من أجل فلسطين، وكوفيتك الفلسطينية تزين البزّة العسكرية.
ألست أنت القائل .. "دع ألف زهرة تتفتح في البستان الفلسطيني" تعبيرا عن قناعتك بتعدد الآراء.. و يا جبل ما يهزك ريح .. تعبيراً عن التمسك بخيار المقاومة والصمود و التضحية ...
فقد كنت جبلاً شامخاً، لم تستطع عواصف شارون العاتية أن تهزك وأن تحنيك.. ألست أنت الذي رفض التنازل عن حق العودة والسيادة الكاملة على القدس .
ألست أنت الزعيم الأممي الوحيد، الذي قال لمحكومية هذا العالم الأحادية القطب ..أخطبوط هذا العصر.. أمريكا لا.. في عصر الظلم والظلام... وأنت في الملعب الأمريكي ..فقد رفضت رضاهم.. ولكنك نلت احترام وتقدير شعبك ورضى ربك..
رأيناهم في شوارع القدس، كيف تجردوا من إنسانيتهم وهم شياطين .. يرقصون ويغنون طرباً، ويشمتون بموت عدوهم اللدود.. وهذا شرف عظيم لنا.. دون أن نسمع إدانة لهذا التصرف العنصري.. يشمتون حتى بالموت .. قضاء الله وقدره ! ستبقى فلسطين فلسطيننا، والقدس قدسنا، وسيبقى أيضاً العراق عِرقُنا وعراقنا.. بموصله وبعقوبته وفلوجته وبصرته وكركوكه مهما طال بقاء المحتل .
لقد بكاك شعبك ومعه الملايين من شرفاء الأمة .. لأنك اكثر من زعيم وقائد ومن رمز ومن مناضل وفارس .. تخصصت بفلسطين وارتبطت بها.. وأصبحت أكاديمية نضالية تخرج الثوار والرموز والأحرار والمناضلين والفرسان..
ستبقى سيرتك أبا عمار، تتعطر بها الشعوب المناضلة، من اجل نيل الحرية والاستقلال، فلقد استطاع النضال الفلسطيني المعاصر بقيادتك، أن ينتزع الهوية الوطنية ويحميها من الاندثار، ويثبت حقوق شعبنا المشروعة، ولم تعد قضيتنا قضية لاجئين كما أرادوها ووضعنا قضيتنا على الخارطة السياسية.
لم تكن حياتك مثلهم أبداً .. تسكن القصور الفخمة وتلبس الحرير، وأنت الوحيد المنتخب من شعبك ديموقراطياً .. بل بقيت لآخر لحظة، وأنت في خندق المقاومة، في مقاطعه الصمود والتصدي في رام الله فلسطيننا، تتحدى الدبابة الإسرائيلية، وأنت تقيم بين ما تبقى من الجدران المتواضعة، محروم من أبسط المقومات الضرورية لاستمرار الحياة البشرية، في ظل تخاذل رسمي لم يشهد التاريخ له مثيلاً، وذلك من أجل فلسطين .. لأنك علمتنا أن مهر فلسطين غالياً.
رفضت الاستسلام للحصار، حينما قلت يريدوني قتيلاً أو أسيراً أو طريداً، أقول لهم " شهيداً شهيداً شهيدا"، و لم تستجدي أحداً من أجل أن يفك الحصار الظالم عنك، رغم الآلام المرض وشدته ، وأردت التوجه إلى فرنسا للعلاج، لتبلغ بذلك رسالةً واضحةً للمحتل، ولكل من صمت على حصارك.. تعبيراً عن غضبك على الدور المتواطئ والمتخاذل، من الذين لم يكلفوا أنفسهم بالسؤال على صحتك وأحوالك أثناء الحصار وأثناء مرضك .
لكننا أدركنا أنك خرجت من رام الله، بعد حصار ظالم، زعيماً شامخاً بإرادة لم تنكسر .. وأن الله أرادك في شهر، أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، كما أخبرنا سيد البشرية محمداً عليه أفضل الصلوات والتسليم ، ولتكون شهيداً شهيداً شهيداً، كما تمنيت وكما تستحق، ولكنهم لا يمكن أن يقنعونا أبداً، بأنك لم تمت مسموماً، وكما حاولوا سابقاً تسميم الأخ القائد خالد مشعل.
ونحن ندرك أيضاً، أنك دفعت حياتك ثمناً لتمسكك بالثوابت الوطنية.. وما السماح لشارون بدخول المسجد الأقصى في عهد نتنياهو، إلا إعلاناً للحرب .. ومعاقبتك بحصارك .. وقد قالوها مراراً أنهم يريدون التخلص منك قبل نهاية العام الحالي . ولك هيبة الأحرار حتى في رحيلك إلى الرفيق الأعلى.. فقد تحركت مشاعر وعواطف، وأحاسيس الملايين .. حركت العالم بأسره، وتوافدت الجماهير من كل العواصم، ومن كل الأديان والجنسيات والشرائح، إلى مستشفى بيرسي في فرنسا، من اجل الدعاء لك بالشفاء والاطمئنان على صحتك..
ودعناك أبا عمار وبكينا على فراقك، لأنه فراق أبدي .. ودعتك الأمة العربية والإسلامية وكل أحرار العالم بحزن شديد ،ولو سمحوا لجثمانك الطاهر أن يمر في ميدان التحرير في قاهرة العواصم، عرين الزعيم الأممي الخالد جمال عبد الناصر .. لكنا بذلك قد عدنا لمشهد لن ننساه أبداً عندما ودعت الجماهير زعيم أمتنا الخالد..
مدننا وقرانا ومخيماتنا الفلسطينية، في كل أماكن تواجدها، خرجت في مسيرات حاشدة ضمت آلاف الفلسطينيين، مودعة الأب والأخ والضمانة، ولبست ثوبا أسوداً، تعبيراً عن مدى الحزن والأسى، والتي تمثل حالة اليتم الفلسطيني، برحيل القائد، الذي رفض أن يتخلى عن أهله وقضيته وثوابته.
أبو عمار، الذي لم ينسى أبدا أهله في مخيمات الشتات في لبنان، وأوصى بهم وهو يتعافى في أخر أيامه، لأنهم كانوا يجدونه دائماً بجانبهم، في الضيق والمرض والتعليم ، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم فيواسيهم ويأخذ بيدهم. أحبوه لأنه كان واحداً منهم، يشعر بهم ويحبهم ويقدر حجم معاناتهم.
لقد استشهد الختيار واقفاً، فمن يمكن له من القادة المعاصرين أن يحظى بمثل هذا التبجيل الدولي، على الصعيد الرسمي والشعبي الذي حظي به الختيار..
تركت لشعبك بعد رحيلك نموذجاً يستحيل نسيانه، و تركت في وجداننا رصيداً معنوياً هائلاً، يوجهنا إلى القدس، متراصين مسلحين بسلاح الصبر والوحدة والمقاومة، نرفض الرضوخ والاستسلام، وما زال شعبنا هناك، يحمل رايات المقاومة، في وقت الرذالة والتساقط والتخاذل وصمت القبور.
كبير أنت يا أبا عمار، كبير يا ختيار، في حياتك وبعد مماتك، كبير بتسامحك وبعطفك وبتحليقك عالياً نجم بدون منازع في سماء الحرية، لم تلمهم أبدا لأنهم خذلوك .. بل كنت تجد لهم دائماً الأعذار رغم غضبك عليهم لتقصيرهم .. حتى في رحيلك أحرجتهم حتى أمام أنفسهم .
نشكرك يا فخامة الرئيس الفرنسي شيراك، ونشكر حكومتك وشعبك، على ما قدمتم من حفاوة فرنسية رائعة، تليق بالأخ القائد أبوعمار حيا ومريضا وشهيداً شهيداً ..
ونتمنى أن يكون بوش وشارون، ومن دار في فلكهم قد استخلصوا العبر مما رأوه على الشاشة الصغيرة، من الإجماع الفلسطيني والعربي والدولي الهائل، على الأخ القائد أبو عمار.. وهذه المحبة الشعبية العارمة له، وما تم فعله له من مواكب جنائزية لا تعمل إلا للقادة والزعماء العظام ..
ولو تركوا الأمر للمشاركة الشعبية لكان المشهد أكثر عظمة.. !!! لن نستطيع أن نقول كل ما يمكن أن يقال فيك يا ختيار ..فقد ترقرقت الدموع في المآقي.
تاريخاً حافلاً بالعطاء .. عشت واستشهدت من أجل فلسطين .. عشت تحلم بالقدس. حيث عجز العالم عن تحقيق وصيتك في أن يحتضن قلب القدس جسدك الطاهر ..
نريد من رفاق الدرب لأبي عمار وإخوانه، أن يكونوا أمينين على العهدة، وأن يكونوا أوفياء للثوابت والمبادئ والمنطلقات والأسس لثورتنا وقضيتنا التي لم يفرط بها الأخ أبو عمار أبداً . وأن يحرصوا على وحدة الصف الفلسطيني، الذي رحل أبو عمار وهو متمسك به ، والى تجسيد الديمقراطية الفلسطينية والعمل على العودة إلى الأطر الشرعية لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، التي تقود كفاحنا، والتي تضم ضمن إطارها كل الطاقات والإمكانيات السياسية وغيرها من إمكانيات متعددة ،وبث الروح فيها، والتمسك بخيار المقاومة.
فعلينا تجميع الطاقات، لترميم أوضاعنا، وتجنب المنازعات والخلاف والتنافر والتناحر والتربص بالبعض والتفخيخ لهم، ونبذ الشللية، وصون الثوابت، والعمل على لم الشمل، وعدم الانزلاق نحو التناحر البغيض..
وكلنا ثقة بأبناء شعبنا، الذي يملك من التجربة والوعي والقدرة الخارقة، في كشف من يقبل بسلام مسموم، وشعبنا الفلسطيني أذكى وأكبر من أن يخدع بقيادة لا تكون حسب المعايير والمواصفات والثوابت الفلسطينية، وهو شعب أثبت في كل مرة كيف تزداد وحدته وقت الأزمات، ونريد أن نسجل هنا ما أبرزته القوى والفصائل مجتمعة، والشخصيات الفلسطينية دون استثناء، من مواقف الرجولة المشرفة، والتي نشهد لرجالاتها بها، في جميع أماكن تواجدها، فقد نعت وعزّت وقدمت وشيّعت وشاركت بأمانة وإخلاص دون مداهنة، ووقفوا يرصوا الصفوف، ليفوتوا الفرصة على المتربصين وأصحاب المصالح الضيقة، وليثبتوا أيضا أن ياسر عرفات ليس ملكاً لفئة معينة من البشر حسب ما يعتقد البعض بل هو قائد فلسطيني شعبي أممي أب حنون لكل الفلسطينيين.
رحمك الله أبو عمار ورحم كل شهداء فلسطين والأمة العربية والإسلامية، ونسأل الله تعالى أن يجعل الجنة مأواك.
نعاهد الله و نعاهدك أن نبقى أوفياء لشعبنا وقضيتنا . العهد هو العهد ... و القسم هو القسم ... وإنا بإذن الله لمنتصرون - الصباح -