بسفره للعلاج، يكون الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، قد خرج من حصار مستمر منذ اكثر من ثلاث سنوات لم يبارح فيه مقره المدمر في مدينة رام الله، بينما حقق قبل ذلك ارقاما قياسية في الطيران ودار حول الكرة الارضية مرات، وتقدر المسافة التي قطعها برحلة الى القمر. تخلى عن الطابق الذي كان يستخدمه ولجأ الى الطابق الاوسط، حيث واصل عمله من مكتب صغير يتحول الى مائدة في اوقات الطعام والى قاعة اجتماعات في الاوقات الاخرى. والى جانبه يتدفق بخار من جهاز آلي ينفث الاوكسجين. وعادة ما يصعد عرفات الى الطابق الثالث حيث يحلو له الجلوس على جسر علوي يمتد بين مكتبه وقاعة الاجتماعات الكبرى، حيث يخلو الجسر من اية مقاعد باستثناء مكتب صغير ومقعدين امامه. ويلازمه عادة طبق من شرائح الفاكهة. عشية رمضان، دخلت على الرئيس هناك، وكان يذرع الجسر ذهابا وإيابا بعد اطفاء الانوار، بينما وقف ثلاثة مسؤولين قرب طاولته لأن احدا منهم لا يستطيع مجاراته في السير ذهابا وإيابا لمدة لا تقل عن نصف ساعة يوميا. سرت معه طوال هذه الفترة، نتحدث في كل الامور.

وشعرت بالعرق يتصبب من جبيني بينما الرئيس العجوز لا يبدي اي علامات تعب. فهذه هي رياضته المفضلة بعد الحصار.. كان آنذاك في صحة جيدة. لكن سرعان ما بدت عليه بوادر ازمة صحية مشابهة لأزمة اصابته في نهاية سبتمبر من العام الماضي. وفي تلك الأزمة زرته اثناء مرضه وكانت اعراض المرض مشابهة لما ألم به الآن. انفلونزا.. وتقيؤ.. وإسهال وآلام في المعدة وإرهاق وهزال. لكن عرفات عاند المرض وقتها. قلت له مازحا: اظن ان هناك عسر هضم، فقد تناولت وجبة ضمت اربعة رؤساء وزارات اسرائيليين هم اسحاق رابين وبنيامين نتنياهو وايهود باراك.. لكن شارون يبدو دسما عسير الهضم.

فقال رغم هزاله: هل نسيت اسحاق شامير! في احلك الازمات يبدو عرفات سلسا وساخرا، وقد غادرته رجفة الشفتين بعد توقفه عن تناول دواء مهدئ للاعصاب. وصباح الخميس الماضي، عاند الاطباء وادى صلاة الفجر ونوى الصيام. وعند الضحى غضب الاطباء وأقنعوه بفك الصيام وتناول وجبة من الذرة والحليب.

رغم ان وضعه الصحي لم يصل الى حافة الخطر، الا ان اي وعكة تلم بعرفات تثير دوما عاصفة من الاشاعات والاحتمالات والقلق. فقد اعتاد الاسرائيليون على تشييع جنازته سنويا مع كل وعكة واخرجوا سيناريوهات ما بعده، وبدأوا يملون شروطهم على خليفته المحتمل، وعلى رأسها مطلبهم مكافحة ما يسمونه الارهاب واستئناف خريطة الطريق، مع انهم لم يعترفوا بها ونعاها شارون اكثر من مرة. على ان القلق في الشارع الفلسطيني له ما يبرره، لأن عرفات لم يبن مؤسسة حكم قادرة على الصمود وتداول السلطة بسلاسة، فالوضع الداخلي الفلسطيني يخلو من الرموز القادرة على السيطرة. بل ان عرفات نفسه فقد بعض السيطرة على جماعات وأشخاص وأجنحة في حركة فتح خاصة في غزة. وهو بطبيعته كزعيم ابوي بطريركي، رفض ويرفض بروز وجوه قادرة على منافسته في حياته. ولعله انشأ اجهزة امنية مختلفة متنافرة فيما بينها لهذا الهدف، حتى لا يخلق مركز قوة موحدا. وبالتالي صار من الصعب ان ينقلب عليه أحد. وصار من الصعب ان يسيطر عليها أحد في حال غيابه. وعادة ما كان يسخر عرفات من السيناريوهات التي وضعت في حالة غيابه، وكان يقول «القانون الاساس للسلطة ينص على ان رئيس المجلس التشريعي يتولى مهام الرئيس الى حين اجراء انتخابات رئاسية في غضون 60 يوما». ولكن الإشكالية هي ان رئيس المجلس الحالي روحي فتوح، ليس عضوا في اللجنة المركزية لحركة فتح، فهل تسمح المركزية بأن يتولى فتوح الرئاسة ولو مؤقتا؟ ثم هناك مراكز القوى الامنية التي لا تربط قادتها علاقات ودية. وهناك قادة في الضفة وآخرون في غزة لكل جهاز. وبالتالي سيكون الوضع مرشحا لمزيد من الاضطراب، لأن القاسم المشترك غاب. ولا يتمتع احد من بعده بأية كاريزما تتيح له فرض وجوده. محمود عباس (ابو مازن) ظل على خلاف مع عرفات ولم يتصالحا الا اثناء المرض. رئيس الوزراء ابو علاء، ليس على وفاق مع ابو مازن. محمد دحلان لا يستطيع ان يملأ الفراغ، نظرا للعداء القائم بينه وبين اغلب اعضاء مركزية فتح. استطلاعات الرأي التي اجريت أخيرا وضعت اغلب الوجوه الحالية في المؤخرة في نسبة أهليتها للرئاسة، بحيث لم يحصد احد اكثر من اثنين بالمئة، باستثناء الاسير مروان البرغوثي، الذي يأتي بعد عرفات مباشرة من حيث الشعبية.

هذا الوضع المستحيل سياسيا بعد عرفات، يجعل المستحيل واردا من حيث الفوضى المحتملة. ومن حيث تدخل قوى خارجية في فرض هذا او ذاك. لكن ثمة إجماعا ضمنيا على ان محمود عباس هو الاصلح دوليا، يليه ابو علاء. لكن يبدو من العبث او السابق لأوانه تداول هذه السيناريوهات، في ظل حقيقة ان عرفات ما زال حيا وقادرا على الحكم. وعلاجه بات محتملا. فهو لا يعاني من امراض خبيثة. لكن آن الاوان لأن يقال لعرفات بعد شفائه بإذن الله : ان الله وحده لا خليفة له. فلتضع اسسا لمن يخلفك. لأن شعار «من بعدي الطوفان» لا يليق بزعيم له تاريخ طويل. وله شعب يستحق مستقبلا قياديا واضحا. - الشرق الأوسط -