أراد المحتل أن يضيف إلى وجوه المعاناة المتعددة للشعب الفلسطيني، فأضاف أقسى ما يمكن أن يعانيه البشر: جدار زجاجي يفصل ما بين السجين وأقربائه ومحبيه، يمنع العينين أن تريا والشفتين أن تتكلما واليدين أن تلمسا.
وبعد أن كان السجناء وأهلوهم ينتظرون يوم الزيارة بفارغ الصبر؛ كي يتواصل الأحباء: يلمسون يدا أو طرفها من خلال الشبك؛ يقبّلونهم، ويسمعون أصواتهم، وضحكاتهم، وآخر نكاتهم، ويشمون رائحتهم، ويحسون أنفاسهم، ويتأملون لونهم: "متغير حبيبي، تعبانة حبيبتي؟ كنها الفورة مسقوفة؟ ما بتاكل؟ ما بتنامي؟ ليش الأسود تحت عينيك؟"؛ أصبحوا ينظرون من وراء جدار زجاجي، ويتكلمون من خلال جهاز التليفون، إن وجد، ويتكلمون واحداً واحداَ مع السجين أو السجينة.
يا لقسوة المحتل، ويا لقسوة العالم! ويا لقسوة الإنسان حين يتجبر بالإنسان ويحرمه من أبسط حقوقه الإنسانية وأهمها: حق التواصل الإنساني.
تؤكد المحامية عبير بكر استحالة التواصل الإنساني ما بين الأسرى وذويهم، من خلال وصف غرفة الزيارة:
هي واحدة كبيرة مقسمة إلى خلايا صغيرة، جدار زجاجي يفصل بين السجين وزائريه، كل سجين يجلس في خلية، ويتحدث مع زائريه عن طريق هاتف معلق في الخلية، ويصف الزائرون جودة الصوت بأنها متدنية جدًا.
يتحدث جلال رمانة، السجين في سجن نفحة الصحراوي، بعد تلقيه نبأ منعه من ملامسة أبنائه: لقد تلقى ابناي ببالغ الصعوبة نبأ منعهما من ملامستي أو الدخول إليّ، كنت معتادًا على تقبيلهما من أجل تعويضهما بالقليل عن غيابي عن البيت. شيماء ومحمد الابنان، كانا يسقطانني أرضًا، يدفعانني ويضحكان، مثل البيت بالضبط، كنت آتي لهما بالحلوى التي أحباها في كل مرة زاراني فيها، بالضبط مثلما كنت أفعل بالبيت.
تقول ناريمان الشرفا: كنت أحس بإصبع شادي سخناً، كنت أسمع دقات قلبه، أرى ابتسامته، أشم رائحة أسنانه حين أقبّله؛ أما الآن فلا أستطيع لمس أصابعه أو رؤية عينيه. يا الله: هل أقبل الجدار؟!
وتقول لطيفة زياده: كان العناق وراء الشبك؛ لكنه كان عناقاً. أضاعوا أجمل ما في لقاء الأم بابنها.
أما أم محمد فتتحدث عن تفاصيل التفتيش التي لا بداية لها ولا نهاية، تتحدث عن سجن بئر السبع فيتخيل المرء أنه يقرأ في رواية خيالية من كتاب ألف ليلة وليلة: سرداب بأربعة أبواب تنفتح وتقفل، ندخل سرداباً تحت الأرض إلى أن نصل.
وتتحدث فاطمة عن دقات قلبها التي تتسارع لرؤية زوجها، وتأسف لعدم استطاعتها التزين كما يجب قبل رؤيته، وتضطر إلى اقتراض مشطً من جارتها أو والدة زوجها؛ كي يراها في أحسن حال: ننتظر من الساعة الثالثة والنصف فجراً كي نلتحق بالباص، ثم تبدأ رحلة العذاب، التي نحتملها بإرادتنا؛ كي نرى المحبوب، ولكن أن نحرم من رؤيته ومن لمسه ومن الحديث معه؛ فهو أمر فوق الاحتمال.
وتتحدث نعمة محمد منصور من دير جرير، عن الفارق ما بين زيارة ولدها عصمت عمر منصور ـ الذي حكم اثنين وعشرين عاماً، بقي له من مدة حكمه أحد عشر عاما ـ قبل وضع الزجاج الفاصل وما بعد وضعه:
قبل الكزاز أزوره وأنبسط، ألمس إيده، أعرف شو بحكي شو بيخرّف، أعرف شعوره. أصلح. من بعد الكزاز بنزورهم خيال. بيدبّ في الصوت وبادبّ في الصوت. بالسبع لسّه فيش تليفون. هادا أرغم اولادنا على جوعهم وعطشهم. عزلوا ابني ونقلوه على هداريم وعلى نفحة خلال أربع شهور، حطوه في الزنازين وحرمونا من زيارته تسع شهور. رحت ازوره قالوا مفيش هو مسؤول عن الاضراب، قلت للضابط: بهدّ السجن عليك. قال: ابنك بدريش وين؟! حطينا تحت الأرض. قلت: قسماً ما باطلع إلاّ ييجي. جابوه. بشوفه خيال من الكزاز. قال: وداع يا إما إضراب يا حياة. شو أقول؟! إحساس الأم قلبي بنحرق بس بشجّعه.
وتتحدث فرحة: كانوا يسمحون بإدخال شبشب، حذاء رياضة، قميص، بنطلون، وكانوا يسمحون ببن وشاي وميرمية ونعنع، ببعض المأكولات مثل: ملوخية خضرا وبقدونس وسلق وليمون وزيت زيتون؛ أما الآن فلا يسمحون بشيء، يختصرون كلامهم بكلمة واحدة: ممنوع. وتصف الأسيرة المحررة إيمان نمر سرحان نافع ـ التي قضت في السجن تسع سنوات ونصف السنة ـ واقع الزيارة قبل وضع زجاج الفصل، والواقع الحالي، الذي تزداد قسوته كل يوم:
كنا نزور بشبك، وكنا نستطيع أن نلمس أصابع أحبائنا. كان مسموحاً بحضن الأولاد، زيارة الأقارب من غير الدرجة الأولى. الآن القانون يمنع زيارة الابن أو الأخت أو الأخ، ممن تقع أعمارهم ما بين السادسة عشرة والخامسة والأربعين. وإذا كانت الأم مريضة والأب مريضا فليس هناك من يستطيع زيارة السجين.
وتلخص نوال محمد عوض دحنون شعورها، بعد زيارة ابنها محمد جمال الدحنون، الذي يبلغ ثلاثة وعشرين سنة: صوته بسمعه قليل، حتى تليفونات ما فيه. أخذوها منهم. ما مسكت إيده ولا مرّة. أربع شهور مسجون لا لمسته ولا لمسني.
*****
سؤال موجه إلى كل أمهات الدنيا: ما الذي يعادل ضمّة ابن أو زوج أو أخ؟ ما الذي يعادل ضمّة حبيب؟! وصرخة موجهة إلى كل أحرار العالم: من يعانق الزجاج؟!