يبدو أن حركة حماس تتقدم علي طريق الحُكم، في أية منطقة يجلو عنها الاحتلال، أو يُعيد انتشاره من حولها، لتجري فيها عملية انتخابية. فعلي الرغم من الانتشار الشعبي، لهذه الحركة المتناغمة والمنضبطة، فإنها ما تزال ذات رأس هرم نخبوي، يتعاطي السياسة، مع الأخذ في الاعتبار كل عناصر الواقع، الفلسطيني والعربي والدولي. وما بطء التقدم للتكيف مع أية عملية سياسية، إلا بسبب غياب العملية السياسية نفسها، وكذلك بسبب انعدام الأفق، علي النحو الذي يجعل حماس محقة في عدم رمي ورقتها في الهواء. فالواقعية، التي يتحدثون عنها، ليست ذات حيثيات محترمة، عندما تتأسس علي أوهام، وليس الذين وصفوا أنفسهم بـ الواقعيين ودعوا الآخرين للحذو حذوهم، إلا واهمين، ولا واقعيين بامتياز!

إن فلسطين، هي إحدي الساحات المهمة ـ إن لم تكن الأهم ـ بالنسبة للأمريكيين، لكي يمتحنوا فيها ذكاء دراساتهم النظرية، حول الإسلاميين، في سياق محاولات التطويع، بالعنف الإجرامي، أو بغواية الحُكم. فبعد تقرير إسلام ديمقراطي ومدني الذي أصدرته مؤسسة راند الأمريكية، قبل نحو سبعة أشهر، خرجت مؤسسة كارنيغي للسلام بتقرير مهم، حمل العنوان: الديمقراطية والإسلام من إعداد رجل المخابرات السابق المخضرم، غراهام فولر، قال فيه إن الإسلام والديمقراطية لا يتناقضان. ومن بين المعاني التي يتوصل اليها الباحث، أن حال البهللة والعفن والتهتك الداخلي، للقوي القومية والعلمانية، لا يجعلها قادرة علي أن تصون مشروعاً، للسلم أو للحرب، للتهدئة أو للمقاومة (بالمعني) وبالتالي فإن الرهان المتاح، سيكون علي قوي، ذات بنية سياسية متجذرة، وقادرة علي حمل مشروع، تكمن في بُنيته، تيارات سياسية متباينة، من دون الاحتكام للعنف. ويُلمّح فولر، الي دور مستقبلي لجماعة الإخوان المسلمين بكل حلقاتها، كقوة ارتضت مبدأ الديمقراطية، في العمل السياسي، مستندة الي صعوبة مواجهتها سياسياً وأيديولوجياً، عندما تتسلح برمزيات وشعارات العقيدة الإسلامية!

وباعتبار أن موضوع الصراع في فلسطين، يتصل بثوابت القضية ومُدركاتها، فإن إدخال الإسلاميين الي اللعبة الديمقراطية، يُعد عملية معقدة، تستوجب خطاباً يشتمل علي الشيء ونقيضه: العصا والجزرة، الوعد والوعيد، القتل الدامي والكلام المعسول، الإقرار بقوة الحضور، في المجتمع الفلسطيني، والاستمرار في محاولات إضعاف هذه القوة، أو إثخانها بالجراح. ويبدو من خلال التقارير البحثية الأمريكية، أن خيبة القوي الوطنية، وترهلها، وعجزها عن حل مشكلة واحدة، بحجم تنظيم الطابور في معبر رفح، هو الذي أنشأ فكرة المراهنة علي القوي الإسلامية، بحيث يترافق شن الحرب الشرسة، علي الفصائل الإسلامية، لإضعافها، مع تركيز الاهتمام بها، كقوة مستقبلية، قوية سياسياً، وذات منظومة سلوكية محترمة، وتزيدها الفواجع قوة، من خلال تعاطف المجتمع معها، دون أن يُعطل هذا التعاطف، وصول الشريحة القائدة، الي القناعة، بموجبات وضرورات التخلي عن مشروع كبير، تختلط فيه الأمنيات البعيدة بالأمنيات القريبة، والمستحيلات بالممكنات، ولا يُجزّيء الأهداف المنبثقة، عن مُطلقات، تري فلسطين كلها، من النهر الي البحر وقفاً إسلامياً !

في كانون الأول الماضي، احتضن معهد كارينغي للسلام مؤتمراً بعنوان: دور الجماعات الإسلامية في الإصلاح السياسي تنافست فيه وجهتا نظر، إحداها تدفع في اتجاه استئناس الإسلاميين، وإدخالهم في اللعبة السياسية الديمقراطية، والثانية رأت في الديمقراطية التي يمكن أن يأتي الإسلاميون من خلالها، خطراً ينبغي تلافيه. وفي ذلك السياق، جري التركيز علي الفارق بين ثقافة الديمقراطية، وآليات العملية الديمقراطية، بمعني أن الإسلاميين ـ مثلما ذهبت باحثة اسمها مارينا أوتاوي ـ يمكن أن يكرّسوا ثقافتهم، من خلال عملية ديمقراطية، ذات ثقافة مغايرة. وفي التقرير الأخير، الصادر عن المعهد المقرب من البيت الأبيض، رجحت كفة الرأي القائل باستئناس الإسلاميين، طالما أنهم حلقة من جماعة، ترتضي الديمقراطية، في لعبة السياسة!

بقي القول، أن ثقافة القوي الإسلامية في فلسطين، وقوتها الكفاحية، قد أصبحتا في موضع الاستهداف، من خلال محاولات خلخلة بعض الثوابت المتعلقة ـ ضمن هذه الثقافة وفي وضعية هذه القوة ـ بالقضية الفلسطينية نفسها. وما المَشاهد اليومية الدامية، للعدوان، وللقتل الوحشي، بالجملة والمفرّق، بالترافق مع تسريبات حول الدور المستقبلي لـ حماس وتصريحات صادرة عن هذه الأخيرة، حول التعامل الإيجابي، مع أية عملية انتخابية فلسطينية، والتوجه الي مراكز التسجيل؛ إلا إشارات في السياق! نحن، إذن، بصدد الحديث عن عملية انتخابية ممكنة، وليس من أحد، يدقق في شأن الثقافة السياسية، التي يمكن أن ينخرط علي أساسها الإسلاميون في العملية الانتخابية. فالتركيز، الآن، علي الحُكم، ويستمد الكلام في هذا الشأن، زخمه، من واقع التردي، غير المأمول إصلاحه، للحركة الوطنية وسلطتها، إذ لا يختلف اثنان، علي ضرورة التغيير، حتي ولو كان تغييراً للحكم نفسه، لا تغييراً من أجل بطلان التراجعات، وإعادة تأهيل المُطلقات، علي مستوي القضية الفلسطينية برمتها. فمن كان ينام علي وسادة الفكرة المريحة، بأن الإسلاميين مرفوضون من القوي الإقليمية والدولية، تكذبه اليوم، التقارير الأمريكية الصادرة عن مراكز ومعاهد دراسات، مقربة من دوائر صنع القرار، مثلما تكذبه فرضية الاطمئنان المصري، لاحتمالات التفاهم مع حماس وغيرها!