مع مجيء جورج بوش الابن إلى الحكم في الولايات المتحدة الأميركية, صار الانحياز السياسي إلى إسرائيل وتبني مطالبها سافرين. ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة, منها ما يعرف بظاهرة الولاء المزدوج داخل إدارة بوش وعالم المحافظين الجدد, حيث لا يميز هؤلاء المصالح الأميركية من المصالح الإسرائيلية, ويشجعون في شكل مكشوف على التطابق المزعوم بينهما. لكن العامل الأكثر حسماً الموجه لصنع السياسة الأميركية هو جماعة الموالين لإسرائيل, الذين يعرفون كيف يلعبون بالمتعصبين المسيحيين, ويعرفون كذلك أن ما يواتي مصالحهم ومصالح إسرائيل هو المصالح النفطية لأشخاص من أمثال الرئيس بوش ونائبه تشيني.
ويقود هذا الانحياز إلى البحث عن إطار المرجعية التي نما وترعرع فيها صناع السياسة في الولايات المتحدة الأميركية, والتي تحولت إلى سياقات تُدرك فيها جملة القضايا العربية, وخصوصاً قضايا الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. ولم يؤد العرب دوراً جوهرياً في هذا الإطار, نظراً الى انهم كانوا مغيبين ومحتقرين وناقصين, أو تمّ تجاهلهم كلياً.
وتظهر البدايات في ذاكرة القرن التاسع عشر الذي تشكّلت فيه الصور النمطية عن فلسطين والعرب, من خلال كتب الرحالة مثل مارك توين عبر أوروبا والأرض المقدسة. وقد صوّر توين, في كتابه "الأبرياء في الخارج" المنشور في عام 1869, فلسطين بلاداً "حزينة وكاسرة للقلوب", "فيها مناظر ومشاهد مملة وكئيبة", و"تتخذ لنفسها مكاناً من الخيش والرماد". أما "سكانها العرب فهم أساساً أناس متسولون بطبيعتهم وغريزيون". وشكلت هذه الصور الانتقاصية أساساً لأولئك الذين ينشرون الدعاية في أن فلسطين كانت أرضاً مهجورة إلى أن "استوطنها الرواد اليهود".
غير أن كتاب مارك توين, كما تلاحظ الباحثة "كاثلين كرستسن" في كتابها "فلسطين في العقل السياسي الأميركي", هو واحد من مئات كتب الرحلات عن الشرق الأوسط التي نشرت في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية على امتداد القرن التاسع عشر, والتي نقلت صورة ازدرائية ومتعالية, تنتقص من حق الفلسطينيين والعرب. إضافة إلى ما كتبه المؤرخون الغربيون والجغرافيون والمبشرون وعلماء الأعراق البشرية. وشكلت جملة أعمالهم ما سماه الراحل إدوارد سعيد "المؤسسة المتحدة للتعامل مع الشرق", عبر وضع حقائق عن الشرق, أو الإدلاء بآراء عنه, أو وصفه وتوجيهه والتحكم به.
لكن الاستشراق الأميركي, يحمل في طياته عناصر العقيدة الدينية والسياسية, ومثلما شجعت عقيدة "القضاء والقدر" الامتداد نحو الغرب في شمال أميركا, فإن نبض القرن التاسع عشر لامتداد نفوذ الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق اعتمد على رغبة لتصدير المسيحية و"الحضارة" إلى السكان في الشرق. وتركزت أنظار الولايات المتحدة على فلسطين, الأرض المقدسة وأرض التوراة, بصفتها مكاناً يجب أن تُعاد فيه المسيحية ومملكة إسرائيل, واسترداده من المسلمين. وعزز فهم الغرب للإسلام حواجز أمام التفاهم بين الغرب والشرق, ويجد ذلك مرجعيته في عهد الصليبيين.
ومثل نظرائهم الغربيين بدأ كتّاب الولايات المتحدة الأميركية يكتبون عن الإسلام وعرضه في شكل متحيّز وإقصائي. وفي هذا الإطار الاستشراقي, نمت موازنة عرب فلسطين باليهود الحمر, "غير المتحضرين", بل وأكثر من ذلك. وبسبب المكانة ذات المغزى للأرض المقدسة عند المسيحيين الغربيين, تمّ تقديم الفلسطينيين بصفتهم غرباء في بلادهم, فهم ليسوا من الشعوب المذكورة في التوراة, كما أنهم ليسوا مسيحيين أو يهوداً, ولذلك فهم غرباء عن التراث المسيحي اليهودي "الصحيح". وسيطر على الخيال الشعبي الأميركي والغربي, وبين أوساط الجمهور المثقف وممن هم مهتمون دينياً, الادعاء أن ليس هناك مواطنون وسكان عرب في الأراضي المقدسـة, أو أنهم غرباء عنها. ويناسب هذا الطرح مفهوم المستعمرين الأميركيين الذي يعتبر أن الأراضي غير الغربية المتخلفة موجودة في كل مكان, وجاهزة لوضع اليد عليها من طرف شعوب وقوى غربية أكثر قدرة. وتمسك المفكرون والكتّاب الصهاينة بهذه الفكرة في ظل شعار "فلسطين من دون شعب, لشعب من دون أرض", كما رسّخت الأدبيات والكتابات الصهيونية الإسرائيلية المبكرة بين أوساط المسيحيين الغربيين الفكرة المتمثلة في أن عودة اليهود إلى فلسطين هي وفاء لنبوءات توراتية. وعليه ترىكاثلين كرستسن أنه ولمدة نصف قرن قبل اتفاقات أوسلو, لم يكن يُعترف بأن طرد الفلسطينيين من أراضيهم عام 1948 هو سبب جوهري للصراع بينهم وبين الإسرائيليين, حيث ترى الغالبية العظمى من الأميركيين بمن فيهم أولئك الذين على قدر من المعرفة والدراية أنه لم يكن للفلسطينيين تاريخ في يوم من الأيام, ولم يكونوا في فلسطين إلا عندما بدأوا العمل على تدميرها وإلحاق أعمال العنف في إسرائيل. ونجح الإسرائيليون فعلاً, وعبر سنوات طويلة, من إنجاز فكرة أن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. ولم يكن ليخطر على بال أميركي أن هذه الأرض التي يجري الصراع عليها تنتمي إلى شعب معيّن قبل العام 1948.
كل ما يعتقده صناع السياسة في الولايات المتحدة الأميركية حول الوضع الفلسطيني, كان في إطار يصوّر فلسطين كأرض مقدسة توراتية, مقدر لها بأمر إلهي إصلاح ما يقوم به المسيحيون واليهود, ويكون فيه الأهالي العرب مهمشين ومقصيين. ومع ازدياد نفوذ قوة الحركة الصهيونية, ازداد تعزيز أو تقوية هذا المفهوم بفضل مفكري اللوبي الصهيوني. ولم ينهض أحد للعمل على تقديم صورة صحيحة للوجود العربي والمسلم في فلسطين, أو يدفع بها إلى دائرة اهتمام الغربيين, أو يفند تلك المزاعم. لم يكتب التاريخ الأصلي لفلسطين, ولنشأة إسرائيل مؤرخون مستقلون محترفون, بل كتبه مؤرخون رسميون أو عسكريون, مشاركون في الحرب أو سياسيون وجنـود وصحافيـون وكتاب السير وقلة منهم كانت موضوعية, وربما يستثنى منهم بعض المؤرخين الجدد. لكن التاريخ ملك المنتصرين كما يقال, وقد قبل الأميركيون, ومعهم غالبية صناع القرار السياسي الأميركي, مسار التاريخ هذا, لأنه كان سهلاً عليهم أن يفعلوا ذلك.
ونادراً ما دخل الفلسطينيون في حسابات الساسة في الولايات المتحدة الأميركية في خمسينات القرن العشرين وستيناته, تماشياً مع مبدأ: "ما هو بعيد عن العين بعيد عن العقل". وبعد تشتيتهم عن ديارهم اختفى اسم فلسطين من سجلات العالم السياسية, فأصبح الشعب الفلسطيني ذاته من دون اسم, وبات الفلسطينيون يُعرفون بأنهم مجرد "لاجئين عرب", من دون هوية أو وضع محدد, سوى أنهم جماعة من سكان المخيمات. وتلك ظاهرة استمرت طوال إدارات الرؤساء: دوايت آيزنهاور وجون كينيدي ولندن جونسون. ولهذا وصل جيل من صناع السياسة إلى مرحلة لا يعرفون فيها, ولا يعتقدون أن من الضرورة أن يعرفوا, قصة الفلسطينيين وقضيتهم. استولت إسرائيل على الأرض, لأنها انتصرت في عام 1948, واستولت على التاريخ أيضاً. ثم صارت إسرائيل دولة, ولم يعد للفلسطينيين دولة, لذلك فرضت إسرائيل حدوداً للتخاطب في شأن "المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية".
ومثّل جيمي كارتر استثناء بين رؤساء الولايات المتحدة في تعامله مع المشكلة الإسرائيلية - العربية, لكنه هُزم في النهاية أمام إلحاح إطار المرجعية الذي استمر, مع جهوده الحثيثة في تغييره, ولم يسجل التاريخ أي رئيس في الولايات المتحدة فاز في الانتخابات ما دام يمارس ضغوطاً على إسرائيل, إلا آيزنهاور. أما كارتر, فلم يستطع أن يبذل جهوداً جدية في فترة ولايته الثانية في معارضة رغبة إسرائيل في إبقاء الفلسطينيين خارج محادثات السلام, لأنه غرق في مشكلات سياسية, وفي النهاية سقطت جهود كارتر في بدء عملية سلام جدية.
ولكن عندما تولى ريغان وزملاؤه السلطة, رجعوا بالنهج السياسي إلى تفكير السبعينات. وتمّ ذلك وكأن جهود كارتر في حل قضية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لم تحدث, أو ذهبت أدراج الريح, وارتدّ فريق ريغان إلى إطار المرجعية القديم, حيث لا مكان فيه للفلسطينيين والقضية الفلسطينية, وتكون فيه إسرائيل متفوقة في اعتبارات سياسة الولايات المتحدة, بغض النظر عــن سجلها في سياسات الاستيطان غير الشرعي في الضفة الغربية أو سياستها العدوانية تجاه لبنان أو حقوق الإنسان الفلسطيني.
وأحدثت التطورات في الشرق الأوسط, ولا سيما الانتفاضة وحرب الخليج, تغيراً في فهم الجمهور في الولايات المتحدة حول الفلسطينيين والعرب, وهو تغير في إطار المرجعية الذي ينظر من خلاله إلى العرب وإسرائيل. لكن التركيز الأحادي الجانب للولايات المتحدة على وجهة النظر الإسرائيلية في الصراع, يجعلها على الدوام عاجزة عن إنجاز الدور الذي وضعته ورسمته لنفسها, كوسيطة وصانعة للسلام. وضع المحافظون الجدد في اعتبارهم مسألة تخليص العراق من زعيمه ومن مخزون أسلحته منذ زمن بعيد, مع وجود بوش الأب في السلطة, وتمّ تحبير أوراق المحافظين الجدد بمفاهيم, مثل "إعادة صياغة العراق", و"إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط", و"البحث عن بدائل عن عرفات", وأصبحت كلها أجزاء مألوفة من اللغة الدبلوماسية لإدارة بوش الابن. - الحياة اللندنية -