بقليل من التوتر، ينتظر حسن المعلم جرس الانصراف من المدرسة، ليعود الى بيته المتواضع، ويتناول ما تيسر من طعام، وقبل أن ينهي مضغته الاخيرة ينتقل للعمل في سيارة الأجرة. ويواصل حسن سائق التاكسي النهار بالليل من اجل تغطية نفقات الحياة المتعاظمة لأسرته، ولا يملك حسن متسعاً من الوقت لتقديم الشكر الى الحكومة.
سلمى معلمة مغتربة في وطنها. تركت أبناءها وزوجها على مبعدة ثمانين كيلو متراً فقط، هرباً من عذاب السفر وتكلفته الباهظة. يقيم جسدها في سلواد مكان عملها وقرب مدرستها وينتشر ذهنها وخيالها بعيداً مع اولادها وأسرتها في طولكرم.
عطا المعلم يعمل بعد دوامه المدرسي المشمول بأعباء السفر المادية والجسدية والنفسية، موظفاً في مؤسسة اعلامية. يغادر عطا منزله في السابعة صباحاً ويعود اليه بعد الثانية عشرة ليلاً. ولا يستطيع ان يتحدث طويلاً مع من يجده مستيقظاً من فرط الارهاق والخوف من ازعاج الآخرين.
محمود لا يكل ولا يمل بحثاً عن عمل لتغطية اجرة المنزل، ابو نادر يعمل في الفجر عامل بلدية وفي الصباح معلماً في المدرسة، وأبو عرقوب يبيع الخضار بعد المدرسة وحتى منتصف الليل.
هؤلاء وغيرهم من مئات وآلاف المعلمين والمعلمات بل وأكثرية الـ 34 الف معلم ومعلمة يعيشون معاناة قاسية تنعكس سلباً على اكثر من مليون طالب وطالبة وذويهم. لذا فإن أزمة المعلمين لا تعود أضرارها على هذا القطاع، بل تصيب المجتمع بأكثريته الساحقة إن لم يكن برمته.
من المتعارف عليه في كل البلدان ان التطور يخضع لأدوات قياس اهمها التعليم او العملية التربوية، والتعليم يشمل المناهج والجهاز التربوي (المعلمين والادارة) والموازنة المخصصة للاستثمار في هذا المجال، ويؤدي تفاعل هذه العوامل مع بعضها البعض الى بناء اجيال قادرة على تطوير ونهضة المجتمع وصناعة المستقبل المزهر، او هدم تلك الاجيال وقطع الطريق على صيرورة التطور. فأين نحن من هذه العملية؟!
تقول الفئة المتقدمة من النقاد ان فرصة وضع المناهج الحديثة تكاد تضيع وتفلت من بين ايدينا. فالمواد الجديدة والمستحدثة لم تتجاوز نوعياً المناهج القديمة القائمة على الحفظ والتلقين والتي قادت الى فصل العلوم عن مجالاتها التطبيقية وبالتالي فإن التحدي الذي يواجهنا الآن، هو قطع الطريق على عملية إعادة انتاج منهاج الحفظ والتلقين والانقياد وفصل العلوم عن الحياة لمصلحة منهاج يربط العلوم والعلم بالحياة والتنمية والانفتاح، ويكرس قيم النقد والمساءلة والتساؤل والحرية والعدالة والمساواة.
وعلى صعيد الامكانات المادية (الموازنة) المخصصة للعلم والتعليم، فإن الموازنة المخصصة للتعليم هي 41%، مقابل موازنة الامن التي تتجاوز 26% من اجمالي قيمة الموازنة، وإذا ربطنا قلة المبلغ المخصص للتعليم بشبه غياب الموارد المخصصة للبحث العلمي فإننا سنكون امام اختلال كبير.
أما الجهاز التربوي الذي يشكل المعلمون والمعلمات عموده الفقري فإنه الاكثر سوءاً. فالمعلمون/ات الذين يضطلعون بمهمة بناء الاجيال، يتقاضون ادنى المرتبات ولا يحصلون إلا على ادنى الحقوق، وإذا ما تمت مقارنة اوضاعهم بأوضاع سائر موظفي الحكومة فإن اوضاعهم هي الاسوأ بامتياز، فلا يوجد في التربية والتعليم التي تضم 40 ألفاً بين موظف ومعلم غير 17 مديراً عاماً، في حين يوجد في وزارة الشباب والرياضة 220 مديراً ومديراً عاماً. وفي الوقت الذي يحصل فيه مدير التربية والتعليم على مرتبة مدير (سي) ونائب مدير التربية والتعليم على مرتبة مدير (دي) فإن الوزارات والمؤسسات الحكومية تغص بعشرات ومئات المديرين بلا معايير مهنية. وتصوروا ان المشرف التربوي المسؤول عن مئة معلم يحوز على مرتبة اقل من >رئيس قسم<. ان رواتب ادنى درجات السلم الوظيفي في الوزارات المقرونة (بالعمل الاضافي والمواصلات) تصل في مجموعها الى (1500) شيكل، وهذا المبلغ يفوق رواتب الفئة الوسطى من المعلمين الذين امضوا سنوات طويلة في التدريس بعد تخرجهم من الجامعات.
لقد فشلت كل محاولات رفع الغبن السابقة. وبات المعلمون لا يثقون بالوعود وبالتعديلات ما لم يتم ترجمتها وتطبيقها. فقد جمدت علاوة غلاء المعيشة. ولم يحصل المعينون الجدد على رواتبهم منذ ثمانية اشهر. وخفضت اجازة الامومة من 90 الى 70 يوماً.
ورغم الاعلان عن مصادقة مجلس الوزراء على توصيات اللجنة الوزارية الا ان المعلمين لا يرون في القرارات المعلنة حلاً فعلياً لمشاكلهم او استجابة مقبولة لمطالبهم، يقول ناطق باسم اتحاد المعلمين ان التوصيات المعمول بها، هي توصيات لجنة الكرنز وأبو شريعة ووزارة المالية وليست توصيات اللجنة الوزارية.
ان الحل المنطقي والعملي والمنصف لا يكون بزيادة 300-400 شيكل في ظل الارتفاع الجنوني للاسعار. ولا يمكن عزو الحلول الترقيعية لعدم وجود تغطية مالية.. فالحكومة التي تستورد افخر السيارات بقيمة نصف مليون شيكل، تستطيع ان تضع قضية رفع الغبن عن المعلمين في موقع افضل (كما يقول احد المعلمين)، لماذا لا يتم ربط الرواتب بغلاء المعيشة ووضع سقف لها لا يهبط عن خط الفقر؟ ان تطبيق قانون الخدمة المدنية باللوائح والعلاوات التي اقرتها اللجنة الوزارية يتضمن تسكين البكالوريوس على الدرجة الخامسة والدبلوم على الدرجة السادسة، وتكون العلاوات تراكمية 15% للدبلوم و 25% للبكالوريوس و 30% للماجستير و 35% للدكتوراه. ويبدأ راتب البكالوريوس بـ 2100 شيكل حسب اللجنة الوزارية وتعدل المواصلات حسب التسعيرة. وتعود اجازة الامومة لـ 90 يوماً، لكن هذا لم يحدث كما يقول انيس بريوش نائب رئيس اتحاد المعلمين الذي اضاف ان عدم الالتزام بتوصيات اللجنة الوزارية سيدفع المعلمين الى مواصلة تحركهم واحتجاجهم التي ستصبح حركة المجتمع الفلسطيني بدون المساس بالعملية التعليمية وخاصة نهاية العام الدراسي واستعداد الطلبة لامتحانات التوجيهي.
القضية ليست زيادة جزئية، بل وضع نظام وقانون يلتزم بالحقوق الاساسيةللمعلمين، بما يتناسب مع دورهم في إعادة البناء. - (مفتاح 5 نيسان 2005) -