لم تكن النبرة التي سمعناها خلال الأسابيع الماضية بشأن تحولات «حماس» غريبة علينا، فقد سمعناها مراراً من قبل خلال الثمانية عشر عاماً الماضية (تأسست الحركة في 14/ 12/ 1987)، ولا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن سببها يعود إلى شعور البعض بقدر من الغيظ، وربما الحسد السياسي، من جراء ظهور حركة إسلامية مجاهدة لها حضورها الكبير في الشارع الفلسطيني، فيما تتبنى الشعارات ذاتها التي نادت بها حركة «فتح» يوم انطلاقتها الأولى، أكان في البدايات الأولى عام 1959، أم الثانية الأوضح عام 1965، والمتمثلة في تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، قبل أن تتراجع بعد سبع سنوات فقط من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 67، وتحديداً في العام 1974، لتقبل بقرارات ما يسمى الشرعية الدولية وتبدأ في المطالبة بتحرير الأراضي المحتلة عام 67، مع الاعتراف للدولة العبرية بـ 78 في المئة من فلسطين التي احتلتها عام 48.

والحال أن «حماس» لم تبدأ من الصفر، فقد كانت حاضرة في المشهد السياسي والشعبي بمختلف جبهاته، أكان امتداداً لمساهمات جهادية لم يكتب لها التواصل (مشاركة الإخوان في حرب 48، قواعد الشيوخ نهاية التسينات)، أم كجماعة إسلامية شمولية «إخوانية»، قبل الإعلان عن تأسيسها كحركة مقاومة إسلامية، ونتذكر أن الكتلة الإسلامية في الجامعات الفلسطينية كانت تنافس، بل تتفوق في بعض الجولات على حركة فتح، أقله خلال الأعوام الخمسة التي سبقت تأسيس حماس، وتحديداً مع تمدد الصحوة الإسلامية في الساحة العربية وشمولها للفضاء الفلسطيني، وهو ما تزامن مع التراجعات المتوالية لمنظمة التحرير آخرها الخروج من لبنان، لكن غياب الحركة عن ساحة الفعل المسلح ظل عنصر ضعف لها أمام الجماهير، الأمر الذي بدا مختلفاً إلى حد ما إثر إلقاء السلطات الإسرائيلية القبض على الشيخ أحمد ياسين ومجموعة من إخوانه عام 1983 بتهمة تأسيس تنظيم مسلح يهدف إلى تدمير الدولة العبرية، بحسب لائحة الاتهام الإسرائيلية.

من هنا كانت الحكاية التي ما إن تهدأ حتى تثور من جديد، وتحديداً بعد إعلان تأسيس حماس، هي تلك التي يمكن تلخيصها في حتمية تكرار الحركة لتجربة فتح، ومن ثم قبولها مع الوقت بتحرير الأراضي المحتلة عام 67. قيل ذلك يوم تحدث الشيخ الشهيد أحمد ياسين عام 1989 عن الهدنة لعشر سنوات مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 67، فيما تكرر مرات عدة خلال السنوات اللاحقة، وبخاصة في العام 1996 إثر قمة شرم الشيخ مع إعادة طرح الهدنة من جديد، وظلت الحكاية تتكرر في كل مناسبة أو تصريح مشابه لقائد هنا أو هناك. وقد حدث ذلك من دون النظر إلى التفاصيل من حيث شروط الهدنة بالانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 67، وإطلاق الأسرى، ورفض الاعتراف بحق الدولة العبرية بما تبقى من فلسطين.

الآن يستعيد القوم ذات الحكاية مع قبول «حماس» بتوجه التهدئة، وبعد ذلك في ظل قرار دخول الانتخابات التشريعية، وربما أيضاً بالموافقة على دخول منظمة التحرير، وبالطبع في سياق احتفالي يؤكد أن أحداً من هذه الفئة لا يريد لصوت يطالب بكامل الحقوق أن يصمد في الساحة، وهي معادلة تتكرر في كل الرذائل السياسية والأخلاقية والدينية يلخصها قوله تعالى "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً"، من دون أن يعني ذلك أننا نتحدث هنا عن الكفر بمعناه المعروف.

ما ينبغي أن يقال ابتداءً هو أن نبوءات تخلي «حماس» عن ثوابتها قد فشلت جميعاً منذ ثمانية عشر عاماً إلى الآن، وصار استمرار الحديث عن تكرار تجربة فتح مثيراً للملل، فقد اعترفت هذه الأخيرة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة عام 48، بعد تسع سنوات فقط من انطلاقتها الحقيقية رغم أنها تأسست قبل احتلال عام 67، مع ضرورة التذكير بأنها فعلت ذلك في ظل أجواء شعبية فلسطينية وعربية ترى ذلك منتهى الخيانة، خلافاً لما كان عليه الحال يوم تأسست حماس نهاية العام 1987، يوم كان خطاب التسوية والاعتراف بدولة العدو شائعاً ولا يقابل بالكثير من الرفض في الأوساط الرسمية والشعبية، وذلك بعد رحلة تطبيع نفسي بدأت بالاعتراف العربي بالقرار الدولي 242 إثر هزيمة 67. الآن تبلغ «حماس» عامها الثامن عشر، فيما هي تصر على رفض الاعتراف بالدولة العبرية وأي حق لها في فلسطين، وقد لاحظنا ذلك حتى في إعلان القاهرة الأخير، حين أصرت «حماس» ومعها شقيقتها الجهاد على عدم المزج بين مصطلح الثوابت الفلسطينية ومطلب الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 67، الأمر الذي دفع إلى وضع كل واحد منهما منفصلاً عن الآخر كنوع من التأكيد على رؤية الحركتين المختلفة لمصطلح الثوابت الفلسطينية الذي يعني في عرفهما تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.

تبقى مسألة التعاطي مع الأوضاع على الأرض سياسياً وعسكرياً، وهذه لا تعني بحال من الأحوال تغييراً في الاستراتيجيات، بقدر ما هي لون من ألوان التكتيك الذي لا بد منه لأية قوة سياسية تتحرك في مثل هذه الأجواء العاصفة فلسطينياً وعربياً ودولياً. ومع ذلك فإن قرار وقف المقاومة أو «التهدئة» كان قراراً فتحاوياً اضطرت حماس والجهاد إلى التعامل معه، فمن رفضوا العسكرة وطالبوا بوقف المقاومة المسلحة هم قادة فتح والسلطة المدعومة من الوضع العربي والدولي، ولا يمكن لحماس أن تواصل الفعل المسلح إلا إذا قررت التمرد على القرار والدخول في صدام مسلح مع جزء من أبناء شعبها، وهو توجه ترفضه ليس فقط خوفاً على نفسها وعناصرها، مع أن ذلك أمر طبيعي، بل أيضاً لأنه يصب في صالح شارون ولا يخدم مصالح الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية.

أما المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي التي لم نكن معها لاعتبارات كثيرة ذكرناها في مقام آخر، ولا مجال لتكرارها هنا، فقد تم على قاعدة رفض أوسلو والحفاظ، بل الإصرار على برنامج المقاومة، كما فعل حزب الله في كتلة الوفاء للمقاومة، مع فارق أن السلطة هنا كانت مع المقاومة، خلافاً لواقعها في الحالة الفلسطينية. وفي كل الأحوال فهي تجربة تقدر بقدرها، لكننا لا نزال على إيماننا بأن حماس لن تغير ثوابتها، وكما فشلت تمنيات الماضي ستفشل رهانات الحاضر. ولعل ما يزيد في هذه القناعة هو أفق التسوية المسدود في ظل شارون، أكان في أبعاده الأولية التي نتابعها هذه الأيام، أم في أبعاده المتعلقة بمفاوضات الوضع النهائي، فضلاً عن إمكانية انقشاع الغيمة السوداء التي أظلت المنطقة ودفعت إلى التراجعات العربية التي تابعناها أخيراً.

يبقى أن قضية فلسطين ليست قضية حماس وحدها، ولا قضية الشعب الفلسطيني وحده، بل هي قضية الأمة بأسرها، ليس من باب البعد الديني الذي يتحكم بها فقط، بل لأننا إزاء عدو له برنامجه الواسع في التمدد والهيمنة، ولن يكتفي بحدود 48 ومعها الأمن والهدوء، الأمر الذي يفرض استمرار الصراع. وحين يستمر الصراع فإن حماس لا يمكن إلا أن تتصدره وفاءً لتاريخها وشهدائها، بل وأسراها الذين يحملون كثير منهم أحكاماً بمئات السنين على أكتافهم، فيما لا يبشرهم برنامج أوسلو الجديد بالخروج إلى فضاء الحرية.

يبقى الاحتمال الذي لا يمكن استبعاده في سياق متابعة تحولات أية حركة سياسية أو عقائدية، وهو احتمال التبديل والتغيير، وفي هذه الحال لن تعود حماس هي حماس التي سماها الرجال الأوائل «حركة المقاومة الإسلامية»، أما الأهم فهو أن الجماهير، وخلافاً لما يعتقد بعض السياسيين، لا تعطي للحركات ولا للرموز شيكات على بياض، فهي معهم ما داموا على العهد الذي بايعتهم عليه، وإذا غيروا فستنفض عنهم، ليظهر من بعدهم، كما يقول أمل دنقل في رائعته «لا تصالح»: «من يلبس الدرع كاملة، يوقد النار شاملة، يطلب الثأر، يستولد الحق من أضلع المستحيل».

يبقى السؤال المثير الذي سيطرحه العقلاء، وهو: هل من مصلحة الشعب الفلسطيني والأمة عموماً أن تغيب من الساحة أية حركة تطالب بكامل الحق، ولماذا يبتهج البعض بأنباء التراجع، مع أننا نراه تراجع المضطر في ظروف قاهرة؟! - (الحياة اللندنية 7 نيسان 2005) -