ما الذي يحدث في الجامعات الأميركية في السنوات الأخيرة؟ وتحديداً ما الذي يفعله اللوبي الصهيوني في جامعة كولومبيا ضد مجموعة من الاساتذة في قسم دراسات الثقافات واللغات الشرق أوسطية والآسيوية؟ منذ ثلاث سنوات على أقل تقدير تدور حملة صهيونية منظمة على هذا القسم وأكاديمييه وعلى وجه الخصوص البرفسور جوزف مسعد أستاذ الفكر العربي في القسم. التهمة هي ذاتها المعروفة والمكرورة والمضجرة: العداء للسامية.
والحيثيات أن «المتهم» ينتقد وحشية إسرائيل وعنصريتها ولا يخضع رأيه العلمي الحر للحسابات والضغوطات المفروضة من خارج الحرم الأكاديمي. الحملة على مسعد وصلت إلى حد مدهش إذ تورطت فيها صحيفة رصينة بمتسوى «نيويورك تايمز»، فكتبت إفتتاحية في 7 نيسان (ابريل) تعلق على تقرير أصدرته لجنة شكلتها الجامعة للبحث في «الإتهامات الموجهة الى مسعد»، وتشكك في نتائج تحقيق تلك اللجنة لأنها لم تدنه. بمعنى آخر، تبنت بالحرف الواحد الموقف الصهيوني المقزز وتدخلت في مسألة فرعية يتعجب المرء فعلاً كيف أنها تخصص إفتتاحية لها (وتمتنع عن نشر ردود أرسلت إليها على تلك الإفتتاحية ومن بينها رد من كاتب هذه السطور).
من الإتهامات التي وجههت إلى مسعد أنه قال لأحد الطلبة الإسرائيليين الذي خدم في الجيش الإسرائيلي في سياق نقاش معه «كم فلسطينياً قتلت؟». الحادثة كما يقول الإسرائيلي للجنة الجامعية وقعت خارج الحرم الجامعي ولا يتذكر المكان أو الزمان، وكذلك الأمر بالنسبة الى «الشاهد» المزعوم الوحيد الذي شهد الحادثة. جوزف مسعد ينكر ليس فقط وقوع الحادثة بل أيضاً أنه رأى صاحب التهمة نفسه. ومع ذلك سحبت تلك «التهمة» إلى داخل الحرم االجامعي وصارت «الأخطر» التي ترددت على عشرات المواقع الألكترونية للجهات الصهيونية. وأنه ضاق ذرعاً بطالبة إسرائيلية أخرى وطلب منها مغادرة القاعة لأنها لم تعترف بالجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. هذه الحادثة لم تقع كما يقول مسعد وليس هناك شهود معتبرون عليها. بل هناك شاهد من خارج الجامعة قالت الطالبة أنه كان حاضراً للمحاضرة التي زعمت أن الحادثة وقعت خلالها. التقرير الذي أصدرته لجنة الشكاوى الجامعية تضمن إشادات من غالبية طلبة جوزف مسعد بموضوعيته والحرية التي يمارسونها في النقاش خلال محاضراته، بل أيضاً بطبيعته الودية داخل قاعات المحاضرات وخارجها حتى مع المخالفين له في الرأي. ومع ذلك فإن ما يريده اللوبي الصهيوني هو رصد كل صوت عربي أو فلسطيني جريء والقضاء عليه قبل أن يكبر ويصبح عبئاً عالمياً كما كانت حالة الراحل إدوارد سعيد.
قضية جوزف مسعد ليست إستثناءً، رغم قسوة الحملة عليه تحديداً. إذ ثمة هجرة أكاديمية متزايدة من بعض صروح الأكاديمية المعروفة برصانتها وحريتها في الولايات المتحدة بإتجاه الجامعات الأوروبية وغير الأوروبية. زميل اكاديمي من أصول هندية ويحمل الجنسية الأميركية يقول إنه قرر الإنتقال نهائياً من واحدة من أعرق الجامعات في نيويورك إلى بريطانيا لأنه لم يعد يطيق الجو الخانق والحجر المباشر وغير المباشر على الحرية العلمية في الجامعة. هذا الأكاديمي ليس فلسطينياً ولا عربياً ولا مسلماً، لكنه معارض للسياسة الخارجية الأميركية. يقول إنه لم يعد بمقدوره أن يرضي ضميره المهني في قاعات المحاضرات وأصبح يتحسب لكل كلمة يقولها لأنها ستصب في ملفات سوداء تضعه في خانة من لا يؤتمن لهم.
في «العهد المكارثي» الجديد، حقبة جورج بوش والمحافظين الجدد، يتراجع كل شيء في الولايات المتحدة: تضيق الحريات الفردية والسياسية، يختفي حق الإختلاف والإعتراض، تسنّ قوانين تمنح أجهزة الأمن والإستخبارات صلاحيات فوق قضائية مستوردة من العالم الثالث. والآن يصل ظلام المحافظين الجدد, بمؤازرة وتأييد وتسويق من قبل اللوبيات الصهونية، إلى حرم الجامعات الأميركية. والمبدأ واحد: إما أن تكون معنا أو أنت إذن ضدنا! تاريخياً، من حق الجامعات الأميركية أن تفخر بأنها كانت منارة من منارات الحرية ليس في بلادها وحسب، بل وفي العالم بأسره. ففيها تطورت أفكار ورؤى وحركات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وكانت في الكثير من الاحيان الضمير الأخلاقي الذي يقف في وجه تغول السياسة. وكانت جرأة الأكاديميين في تحدي «المؤسسة السياسية» وتياراتها هي الوليد الطبيعي لأجواء الحرية التي نعمت بها تلك الجامعات على مدار عقود طويلة. ففي تلك الجامعات ولدت وتطورت تيارات الدعوة للحقوق المدنية وإنصاف السود الأفارقة، ومنها وفيها ولدت وتطورت تيارات معارضة الحرب الأميركية في فيتنام والتي كانت نهايتها إجبار المؤسسة على إنهاء تلك الحرب. كما أن تلك الجامعات كانت محضن التيارات اليسارية والليبرالية التي وازنت وعادلت جموح اليمين الأميركي سواء في السياسة الداخلية ذات الطروحات الرجعية، أو في السياسة الخارجية المتبوصلة بحسب المصالح الأنانية للدولة وفقط.
لكن الوضع الحالي أصبح مؤسفاً للغاية. بل لعل بالإمكان القول إن التسارع الهائل في تردي الحريات الأكاديمية في بعض الجامعات الأميركية يشير إلى الرغبة الجامحة لدى اللوبيات الضاغطة وخاصة الصهيونية لإستثمار حقبة الظلام المكارثي إلى أقصى حد قبل أن تنتهي. لهذا فإن كل نشاط سياسي تقوم به هذه اللوبيات يكون هدفه النهائي واضح: سن قوانين جديدة يصعب تغييرها فيما بعد. قوانين في كل الإتجاهات، السياسة، الأمن، الإعلام، والآن الحريات الأكاديمية. ما أن تثور قضية صغيرة في مكان ما، حتى تتضخم بسرعة مهولة، وتصل بسرعة إلى... الكونغرس. وفي الكونغرس هناك قوانين قيد النظر تشمل ربما كل شيء. من ملاحقة الدول والتنظيمات، مروراً بالإطلاع على الحسابات البنكية لأي فرد أو شركة، وصولاً الآن إلى مراقبة ما يُدرس في قاعات المحاضرات الجامعية.
هل أستفادت الولايات المتحدة من الإرث الصدامي بعد أن أحتلت العراق وصارت تستورد بعض ممارسات العهد البائد؟ هل أستفادت بسرعة من الذي وجدته في العراق وكيف كانت تدار الجامعات وتقمع الحريات الأكاديمية وغيرها لتتوافق مع «السياسة العليا والمصلحة القومية». هل تريد تطبيق ثقافة قمعية إستبدادية عالمثالثية على اكاديمييها بحيث لا يفكرون ولا يكتبون إلا ما يتوافق ليس فقط مع ما تراه المؤسسة السياسية الحاكمة في واشنطن, بل ما يراه اللوبي الصهيوني المتطرف.
اللوبي الصهيوني ينفق ملايين الدولارات على تشويه وإصطياد كل شاردة وواردة لها علاقة بدراسات الشرق الأوسط في تلك الجامعات، ويريد من مراكز البحث والدراسات الأكاديمية المختصة في المنطقة أن تتبنى وجهة النظر الإسرائيلية الليكودية، وإلا فإن مصيرها التكميم أو الإغلاق. ليس في توصيف الأمر بهذا الشكل أي مبالغة بل هو حقيقة على أرض الواقع يكتوي بها ألوف الأساتذة المتخصصين في المنطقة. فخلال السنوات الثلاث الماضية طور اللوبي الصهيوني آليات مراقبة أشبه بشبكات الإستخبارات أسماها «مراقبة الجامعات» (Campus Watch) هدفها رصد ونقل كل ما يُقال ويُكتب عن إسرائيل مما يُمكن إعتباره نقدا لها ولسياساتها. ويقوم بذلك الرصد الطلبة المؤيدين لإسرائيل، أو متطوعون لا علاقة لهم بالعلم والدراسة لكن يداومون على حضور المحاضرات التي يمكن أن تنتقد فيها إسرائيل. وبعد «الرصد» والتوثيق يتم نشر التهمة على موقع خاص على الإنترنت مع تشهير بـ «المتهم»، أي الأكاديمي الذي تجرأ على التعرض لإسرائيل. ويتم التشهير عن طريق الغوص في التاريخ الشخصي والكتابي للأكاديمي المعني وجلب كل شاردة وواردة بشأنه. وبعدها يُطلب من أنصار اللوبي الصهيوني ممارسة الضغط على الجامعة التي يعمل فيها ذلك الأكاديمي لتشكيل لجنة للتحقيق في «جرائمه» وبالتالي إسكاته أو فصله. يُرافق ذلك التشهير الإعلامي عن طريق تمرير «التهم» إلى وسائل الإعلام المؤيدة بحيث تؤدي دورها المطلوب هنا وهو المساندة في التشويه وحرق المتهم حتى قبل أن يستطيع الدفاع عن نفسه. والتهمة المعتادة والمملة هي طبعاً معاداة السامية. فكل ما يكتب عن إسرائيل وعن ممارساتها الوحشية النازية ضد الفلسطينين ومهما كان خفيفاً وطفيفاً يعتبر ممارسة لاسامية.
من المؤسف حقاً أن ينهار تاريخ عريق من الأكاديمية الرصينة والحريات البحثية تحت وطأة مطارق اليمين المسيحي - الصهيوني الذي تسيطر عليه مانوية جورج بوش الخطرة التي تقسم العالم إلى أخيار وأشرار، التي هي نفس قسمة «الفسطاطين» التي قسمها سيء الذكر أسامة بن لادن. كما من المؤسف أن تكون جامعة كولومبيا هي الآن المسرح الأهم لصراع تكميم الأفواه الذي يقوده اللوبي الصهوني وممثلوه من أدعياء الأكاديمية مثل مارتن كريمر ودانيال بايبس اللذين لا يريان في العرب والفلسطينين والمسلمين والإسلام إلا الشر المحض الذي يجب إستئصاله.
الحنق الذي يثيره جوزيف مسعد كأكاديمي عميق الذكاء وغزير الإنتاج في الأوساط الصهيونية مفهوم، ليس فقط لأنه من مدرسة الراحل أدوارد سعيد بل أيضاً لجرأته وعدم مساومته، وأيضاً لطرحه مفهوماً جديداً في النظرة إلى يهود العالم والتفريق بينهم وبين إسرائيل، الأمر الذي أثار عليه غضباً لم يتوقف. فبالنسبة الى مسعد تمثل الصهيونية أسوأ حالات اللاسامية المضادة لليهود كبشر وجنس. فهذه العقيدة العنصرية بالتعريف والقائمة على عقدة التفوق والإنتقاص من الآخر تعتبر نفسها الممثل الشرعي ليهود العالم، وتعتبر إسرائيل التجسيد الأبرز لذلك التمثيل. وبهذا فهي تماهي بين إسرائيل واليهود في العالم (إسرائيل هي يهود العالم، يهود العالم هم إسرائيل). وهكذا فإذا قامت إسرائيل بجرائم حرب كما تقوم دائماً فإن ذلك يعني أن يهود العالم كله منخرطون ومتهمون بتلك الجريمة أيضاً وأنهم مجرمو حرب. ولأن مسعد ينطلق من منطلق إنسانوي محض يفصل فيه بين إسرائيل كدولة عنصرية وبقية يهود العالم الذين هناك الكثير منهم ممن ينتقدون أو غير راضين عن سياستها فإنه يُهاجم من دون رحمة. هؤلاء العنصريون من غلاة الأكاديميين الصهاينة في الجامعات الأميركية الذين يريدون أن يحملوا يهودياً مسالماً في الأرجنتين وزر جرائم الحرب التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينين هم أعداء السامية الحقيقيون وهم من يجب أن يُحظر عليهم الدخول إلى أي حرم جامعي. يبقى أن نقول أن المعركة التي يخوضها أولئك ضد جوزيف مسعد بهدف فصله من الجامعة اا تزال في أوجها، ونتيجتها ستحدد الوجهة التي تتخذها الجامعات الأميركية في المرحلة الحالية. - (الحياة اللندنية 18 نيسان 2005)-